البيروقراطي الأخير.

يخرج من بيته صباحاً وجل تفكيره في اقفال دفتر الحضور والانصراف. يسير يوميا بسيارته عتيقة الطراز، يسلك ذات الطريق وذات المسار الذي يلتزم فيه دون أدنى تغيير. يستذكر حينها في ذهنه التعليمات التي أعطاها لموظفيه يوم أمس كي يراجعها عليهم اليوم. لا يسمح بتجاوز الأنظمة ابداً ولا يُؤمن بنظرية “روح القانون” فالنصوص واضحة جليّة تفسرها اللوائح التنفيذية تلك التي قد أرفق نُسخة مصوّرة منها لكافة موظفيه. يجب أن تُنفّذ بحذافيرها دون أي اجتهادات من أحد. حتى “قهوجي” الإدارة لم يسلم من بيروقراطيته حين يجتهد بإضافة قليل من الزعفران غالي الثمن. لماذا، ومن أين، ومن سمح لك بهذا، ألا تعرف بأن هذا الفعل يخالف التعليمات. المراجعون لإدارته أكثرهم يصاب بالحموضة وعسر الهضم لأيام فيما لو تم تحويل ملفاتهم للسيد (بيروقراطي أفندي). هكذا كان يُطلق عليه. رجلٌ يُعتبر من اقدم موظفي الوزارة. قد أجرى تعديلات عدّة على سنيّ عمره بحجة عدم وجود ما يُثبت تاريخ ميلاده بدقة. عُذره غير القابل للدحض أن الطبيب الذي فتح فمه والنظر في عدد اسنانه اللبنية وضروس العقل أعطاه أكثر مما يجب بعددٍ من السنين غير محددة. رغم محاولات وكيل الوزارة (مرجعه المباشر) التخلص منه بإحالته الى التقاعد لكبر سنّه، ولكونه عقبة في السعي نحو تجديد وتطوير أداء الوزارة الخدمية التي ينتظر منها الناس سرعة الإنجاز الاّ أن محاولات معالي الوكيل تبوء دائماً بالفشل لعدم وجود مسوّغ قانوني لإحالته على التقاعد قبل حلول السن النظامي الذي تجاوزه صاحبنا بسنوات. العقبة كانت دائما عدم التثبّت من تاريخ ميلاده. في يومِ مشهود وصل بيروقراطي افندي لمكتبه وبعد تأكده من مقاييس قهوته الصباحية بمكوناتها وقبل أن يُدلي بتعليماته للرجل المُسن الذي يماثله بكل شيء حتى في نوع الصبغة السوداء التي تكشف أكثر مما تُغطي من بياض شعر اللحية والشوارب. وبعد قرقعة الفناجيل الصيني دلالة على اكتفاء السيد المدير بتعديل المزاج. زم القهوجي شفتيه وخرج مسرعا وهو يردد في داخله “ الله يخارجنا على خير ويختم له ولنا بالصالحات”. دخل مدير مكتبه الشاب حديث التعيين بعد أن طرق الباب طرقات ثلاث حسب التعليمات. وضع معاملات اليوم وغادر وعلى وجهه ابتسامة. عدّل السيد المدير بأطراف أصابع يده اليمنى مكان نظّارة القراءة المقعّرة على أرنبة أنفه وتناول الورقة الأولى. تعميم من معالي الوزير لكافة الإدارات. بعد الموافقة النهائية على اعتماد موقع الوزارة بما يتماشى مع خطوات التحوّل الوطني نحو الحكومة الاليكترونية في كل الإجراءات يُعتمد التوقف الفوري عن التعامل بالورق وقبول إجراءات انهاء طلبات الناس عن بُعد دون الحاجة لمراجعة الوزارة. يُحكى بأن سيارة اسعاف نقلت موظفا للطوارئ لم يُعرف من هو ولا في أي إدارة يتبع للوزارة.