تحوّلات حضارية!.
(1) في بيت المقدس سمة خاصة هي سمة التحوّل، فمنه تحوّلت القِبلة إلى البيت الحرام، ومنه تبدأ اليقظة الشاملة، ويمكن اعتباره من خلال هذه العلامة مؤشّرا على التحولات الحضارية الكبرى؛ فبعد فتح بيت المقدس في عهد صلاح الدين الأيوبي كان نقطة تحوّل للمسيحية في صراعها مع الحضارة الإسلامية حين شالت رمانة الميزان فقامت الحضارة الغربية على أساس هذا التحول الذي طال أمد انتظاره عليهم حتى تمكّنوا علما وقوة وبناء يقوم على أساس متين في كل حقول العلم والمعرفة. إنّ هذا التحول يصاحب هذا الفضاء المقدّس الذي كان قبلة أولى، وملتقى للأنبياء عليهم السلام، ولذلك لا غرابة أن يكون هو المركز الحضاري في الصراع ونقطة التحوّل من حضارة تتهدّم إلى حضارةٍ تتقدّم. لكن ذلك التحول، بطبيعة الحال، وأنا هنا أستعمل الإشارة إلى البعيد عمدا، يحتاج إلى زمن طويل من الصبر، كما يحتاج إلى وعي حضاري بطبيعة التحولات، هذا غير الخروج من النظر الجزئي إلى نظر كليّ ينهض بمشاريع كبرى، مشاريع تضارع ما صنعه الغرب من حضارة شاملة لم يقفوا فيها عند حدود الهزيمة واليقظة منها، بل تجاوزوا ذلك إلى صناعة عقل متعدد الجوانب والمسارات، ونموذج هيمن على العالم بقوّة الإنتاج، فكان هو سلاحهم في السلم والحرب، وهذه هي سنة الله في الكون، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. (2) «ولكنكم تستعجلون» عبارة نبوية، تستشرف الأزمنة تباعا على براق النصر والتمكين، وتدعو إلى أن نرى الأمور من وراء الأفق البعيد على متن سياق جديد يستلهم آية قرآنية سيقت مساقا إلهيا فيما تصنعه أحداث السماء من فارق زمني في قَبًسٍ بياني :{إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا}، سياق يمكن تمثّله أيضا فيما يخص عاقبة النصر لعباده المؤمنين، وإن كان السياق في الأصل متعلقا باليوم الآخر وأحداث الساعة، إلا أن التعبير القرآني كاشف عن طبيعة التدبير الإلهي وسننه في نصرة عباده المؤمنين. (3) قيمة المشاريع -أو المشروعات- الكبرى أنها تصنع عقولا قادرة على صناعة قوة شاملة في جميع الحقول المعرفية، وليس قوة لا تتجاوز إعداد السلاح لمعركة في أيام معدودات، وهذا ما وعته الحضارة الغربية بعد الهزيمة الكبرى التي تلقّتها في بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي فنهضت نهضة شاملة ما زالت إلى اليوم تفرض قوّتها بمنطق السنن الكونية التي جعلها الله حقًّا مشاعا لكل البشر، مؤمنهم وكافرهم، وأسودهم وأبيضهم على حد سواء، لا فرق بين عربي ولا غربيّ إلا بالاستجابة لمنطق هذه السنن واستثمار الفضاء الكوني في صناعة الحضارة والتسلّح قبل كلّ شيء وبعده بقوة العلم والمعرفة. (4) لأمرٍ جلل كان الصعود إلى مدارج السموات العلا من بيت المقدس، في حادثة الإسراء والمعراج، وكان الترقّي الروحي من هذا المكان المبارك، ليكون أخصر طريق إلى بلوغ المكان الأسنى والمقام الأقدس، ومثلما كان هذا المكان المبارك نقطة التحوّل الحضاري بين حضارتين، فهو أيضا موضع ارتقاء وصعود في مدارج السماء وملتقى الأنبياء عليهم السلام، وهو ما يعزز هذه القيمة المكانية لمن عاش على أرضه حميدا أو مات شهيدا دفاعا عن قضيّة إسلامية هي المعادل الرمزي لتمثّل الحق في صيغة أحداث متوالية على امتداد الزمان. ومن المؤكد أن التحوّل الحضاري في الزمن القادم سيكون له علاقة بهذه البقعة المباركة نصرا وتمكينا؛ على أن يكون في شتى حقول المعرفة، من صناعة الصاروخ والطائرة، مرورا بسائر المهن والصناعات والمعارف، إلى شسع النعل في يد الإسكافيّ الحاذق!.