البساطة المؤثرة: كيف تخلق الشخصيات الساذجة دراما أدبية عميقة؟.
للأدب قدرة على تجاوز الحدود المكانية واختراق الزمن، لِيضعنا وجها لوجه أمام شخصيات لم نكن لنلتقي بها أو نتعرف على مكنوناتها، حتى لو عشنا لقرون. كثيرا ما نقلب الصفحة الأخيرة من رواية ما ونعيدها إلى الرف لكن شخصياتها تبقى معنا، خالدة في الفكر والوجدان. وكأننا بنينا معهم صداقة استمرت لمئات الصفحات ويصعب علينا نسيان المشاعر التي تشاركناها والقصص التي عشناها معا. عادة ما تحتفظ الذاكرة الجمعية بأسماء شخصيات عرفت ببطولاتها، أو شجاعتها، أو تضحيتها، أو قصصها الملحمية الرومانسية وغيرها. من منا لا يعرف جان فالجان أو روميو وجولييت أو هيركيول بوارو أو آنا كارنينا وغيرهم من الشخصيات التي حُفرت في ذاكرة حتى من لم يقرأوا قصصهم، لأنها تحولت إلى رموز تمثل جوانب أساسية من التجربة الإنسانية. لكن هنا سأتحدث عن النقيض، عن شخصيات عرفت ببساطتها الأقرب للسذاجة، ومع ذلك خدمت السياقات التي وجدت فيها ولعبت أدوارا محورية منحتنا فهما عميقا للحياة وبعدا فلسفيا يتمثل في قدرتها على تعرية المجتمع وكشف معاييره الزائفة. في بعض الأعمال الأدبية يُنظر إلى هذه الشخصيات كَشخصيات هامشية ولا يؤخذ كلامها بجدية، مما يتيح لهم حرية التعبير والتحدث بشكل صريح صادق يجعل الحقائق أكثر وضوحا. وفي البعض الآخر، تكون شخصيات محبوبة أو عرضة للتهكم حسب السياق الروائي، لكنها تتحد في دعم البناء السردي وإثراء الحبكة. الجندي الطيب شفيك: الجندي الطيب شفيك هو بطل رواية الكاتب التشيكي ياروسلاف هاشك يمثل الإنسان البسيط العادي الذي يجد نفسه وسط الحرب بِعبثيتها وتعقيداتها. أثناء الحرب العالمية الأولى يعيش شفيك في براغ، ويمارس عمله بشخصيته الساذجة غير المدركة لبواطن الأمور. من خلال تصرفاته العفوية يتجلى ضعف النظام وهشاشته وكأن الغباء انقلب إلى دهاء، بدون وعي منه. طريقته في الامتثال للأوامر وتطبيقها بتجرد يجعلها سخيفة ومثارا للسخرية، مما يكشف عدم منطقية كل ما يحدث. بالظرافة والسذاجة يستطيع الجندي الطيب شفيك أن يفلت من المشاكل، وينجو بحماقته لأنه يبدو غير مرئيا في الوقت الذي يلاحظ من مكانه كل متناقضات العالم من حوله. “-كم ستدوم الحرب يا شفيك؟ -خمسة عشر عاما، وهذا واضح! لأنه كانت هناك مرة حرب الثلاثين عاما، والآن نحن أكثر ذكاء بمرتين مما كانوا عليه سابقا، لذا يتوجب تقسيم الثلاثين على اثنين، أي خمسة عشر عاما.”*(1) البهلول في “الملك لير”: البهلول في مسرحية الملك لير هو شخصية مزدوجة تتصف بالسذاجة والحكمة في آن معا. هذا المهرج جليس دائم للملك، ولأنه شخص بسيط يتحدث على سجيته بدون تفكير، يتمكن من انتقاد قرارات الملك بعفوية ويطرح أسئلة بريئة تكشف حقائق عميقة، ويعبر عن آراء لا يجرؤ الآخرون على قولها. “- لو كنت بهلولي يا عمي لأمرت بضربك لأنك شِخت قبل الأوان! -الملك لير: وكيف ذلك؟ -كان ينبغي لك أن تعقل قبل أن تشيخ”*(2) الأمير ميشكين: في رواية الأبله الشهيرة لدوستويفسكي، يجسد الأمير ليو ميشكين، الشخصية النقية طاهرة القلب لدرجة السذاجة. “خجول يتسم في جميع الظروف بكياسة نادرة ولباقة كاملة وشعور فطري بما يليق التزامه من آداب”*(3) هو ليس أبلهًا بالمعنى الحرفي، لكنه يتميز عن المجتمع من حوله بالبراءة والبساطة، وعدم تقيده بالمظاهر الجوفاء والثقافة المزيفة التي تتبناها طبقة الأرستقراطيين في سانت بطرسبرغ، وهذا ما يجعله في نظرهم ضعيفًا وساذجًا يتعاطى مع الأمور بدون تعقيد بشخصيته النقية التي لم تتلوث بظلامية الطبقات العليا آنذاك. “ما زلت أخشى أن تفسد هيئتي المضحكة فكري، وأن تحط من قدر الفكرة الرئيسية. إن حركاتي وإشاراتي غير موفقة. إنها تجيء في غير محلها وأوانها، فَتثير الضحك وتفسد الفكرة.”*(4) زوربا اليوناني: “رأى الدنيا بعيون مغمضة وقلب مفتوح”(5) * يُعد زوربا واحدًا من أشهر الشخصيات الروائية عبر التاريخ. في الواقع هو ليس غبيا لكنه شخصية حيوية تعيش اللحظة بكل تفاصيلها بدون التفكير في العواقب. فن العيش لديه يتمثل في البساطة والانفتاح، وهذا ما يجعله حكيما أكثر من كونه ساذجا. زوربا يأخذ القارئ في رحلة فلسفية تجعلنا نعيد النظر في المواقف الحياتية وتعاطينا معها. بالرغم من أن تصرفاته المتهورة وخروجه عن المألوف وعدم تقيده بالسياقات الاجتماعية يجعل منه شخصية لا عقلانية، بل وبلهاء في نظر البعض، إلا أنه قدّم دروسا لا تُنسى في حب الحياة ومواجهة اليأس بروح منطلقة. “هم يفكرون بصعوبة؛ أما أنا فلا حاجة لي بالتفكير. لا أغتبط بالخير ولا أيأس من الشر”*(6) ختامًا، في الأدب وفي الحياة عامة، لا يمكن أن نحكم على شيء من ظاهره. فقد تكمن الحكمة خلف السذاجة، وتنم اللامبالاة عن فلسفة عميقة، ويختبئ الوعي والفهم الثاقب خلف البراءة. ربما تكون البساطة مفتاحنا للبقاء في عالم معقد ومليء بالازدواجية. المراجع.............................................. (1) الجندي الطيب شفيك- ياروسلاف هاشك- توفيق الأسدي (2) الملك لير- وليم شكسبير- د. محمد مصطفى بدوي (3) الأبله- دوستويفسكي- سامي الدروبي (4) الأبله- دوستويفسكي- سامي الدروبي (5) زوربا اليوناني- نيكوس كازانتزاكيس- أسامة إسبر- الاقتباس من مقدمة نصر سامي (6) زوربا اليوناني- نيكوس كازانتزاكيس- أسامة إسبر