شقراويون حَبسَهُم العُذُر !!
لا تثريبَ عليهم ولا على غيرهم..فهيَ فِطرة بشريّة أزليّة، احتفَتْ بها الأمم وانتشتْ بها الإنسانية، ففي صحيح البخاري (كان صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا) قال ابن حَجَر:[وفي الحديث دلالةٌ على فضلِ المدينة، وعلى مشروعية حُبِّ الوطن والحنين إليه]..ولطالما تغنَّى الشعراء والأدباء عَبر عصورٍ مُتَطاوِلة بأوطانهم وبلدانهم، فها هو (حامِل لواء الشُعراء) مُستجدِياً رِفاق دربه بوقفةٍ استطلاعيةٍ على ما تبقّى من ديارِه وأطلاله: وُقُوفاً بِها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهُم يقولون لا تَهْلِك أسَىً وتَجمَّلِ ففاضَتْ دموعُ العين مِنّي صَبابةً على النَحرِ حتى بلَّ دَمعِيَ مِحْمَلي أمّا الفتى الدمشقي نزار قباني فلقد أفصحَ عن أشواقه العارِمة لِمراتِع الطفولة والصِبا، مُنشِداً بعد اغترابٍ طويل: أتَيتُ مِن رَحِمِ الأحزانِ ياوطني أُقبِّلُ الأرضَ والأبوابَ والشُهُبا ياشامُ إنّ جِراحي لا ضِفافَ لها فمَسِّحي عن جبيني الحُزنَ والتَعَبا تلك الزواريبُ كمْ كنزٍ طَمَرتُ بها وكم تركتُ عليها ذِكريات صِبا هذي البساتينُ كانت بين أمتِعَتي لمَّا ارتحَلتُ عن الفيحاء مُغتَرِبا فلا قميص مِن القُمصان ألبسُهُ إلا وجدتُ على خيطانه عِنَبا مِن هذه المنطَلَقات يَنْصبُ حديثنا برُمته حول شريحةٍ شقراوية مُقدَرةٍ مُوقَّرة، آخِذَة-بفضل الله- في التكاثر والتنامي، يُقيمون في العاصمة الرياض أو في غيرها من مناطق بلادنا المِعطاءة، تصِلنا أخبارهم المؤكدة، ومشاعرهم الجيّاشة، وأمنياتهم الصادقة في العودة إلى شقرائهم، وإمضاء ماتبقَى من أعمارهم المديدة في ربوعها وأكنافِها، يأتون إليها زائرين بين فَينةٍ وأخرى، مَحبةً لها ولأهلها ودعماً لبرامجها ومناشِطها، ولربّما قَصَدَ أحدهم بلدته القديمة، مُستنشِقاً ماضيها التليد وتاريخها المَجيد ولَمَسات التجديد، مُستذكِراً في الوقت ذاته التراجيديا العصيبة وكيف اجتاحتْ الصدور والدُور منذ أكثر من نِصف قرن، حينما حَزموا أمتعتهم ومُتَعلّقاتهم بقَضٍّها وقضيضها إيذاناً بانتقالهم إلى العاصمة الرياض، وسْطَ مُناشَداتٍ مِن جيرانٍ كُرَماء نُبَلاء يألَفُونَ ويُؤْلَفون، فلكأني بعبد الله الفيصل عناهُم بقوله: حارتْ الأشعارُ في ماذا أقولْ شَرَدَ الفِكْرُ وقدْ جَدَّ الرحيل أزمَعوا بَيناً وشَدًّوا رَحلهُم فتَوارَى طَيفُ أحلامي الجميل وتهاوَى الدَمعُ في آثارِهم وهوَ كالجَمر على الخَدِ يسيل فيا لها مِن هجرةٍ كثيفة لدَواعٍ تعليمية وتجارية، ألقتْ بظلالِها وانعكاساتها على المَسيرة التنمويّة والتركيبة السكانية لمدينتنا، فخسِرتْ شقراؤنا أسماءَ رَنانة وكفاءات إدارية بارزة... دخلَ زائرٌ شقراويٌ ذات يومٍ حي الحسيني الأثري، فنظرَ إلى بابٍ خَشبيٍ مُتهالِكٍ عاثت فيه(دابّة الأرض) فسادا، فَلعلَّه هَمَّ بطَرقِه آمِلاً في إجابةٍ مُنتظَرةٍ مِن والِدَيه وأعمامه، وزُهّاد مسجدِه وعُبّاده، غَيرَ أنّ أبيات العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد كانت له بالمرصاد، فعادَ القهقرَى، إيماناً منه وتسليماً أنّ عقارب الساعة ماعادتْ يوماً إلى الوراء!! داعياً لأولئك الأشياخ بالرحمة والمغفرة والرضوان.. ارحمْ يدَيكَ فَما في الدارِ مِن أحدٍ لا تَرجِ رَداً فأهل الودِ قد راحوا ولْتَرحَمِ الدارَ لا تُوقِظ مَواجِعَها للدُورِ رُوحٌ كما للناسِ أرواحُ في الأثناء وقعتْ عَينا صديق له على (مُعِداتٍ ثقيلة) مُتجِهة بأسنانها الفولاذية إلى بيت طينيٍ من بيوتات (الباطن الجنوبي) كانت له فيه لقاءات وصِلات وذكريات شجيًّات!!! فأطرَقَ رأسه غَضبانَ أَسِفا، هاتِفاً مع سعد الخريجي: يا ناس ذاك البيت لا تَهدمونه خلُّوه يبقَى للوفيين تذكار خلُّوه، حب سنين خَلْفه ودُونِه في داخِله قصة مُواليف وأسرار مِن يعشِق الأطلال دَمعه يخونه لا صارتْ أقدامه على سِكّة الدار عِشْ الحمام اللي بعالي ركُونه رمْز الوفاء، رمز المحبة والاصرار نعم سادتي الكرام انتقلَ أولئك الفُضلاء بأبدانهم إلى مَواطن شتّى، غَير أنّ قلوبهم النقيّة ظلّتْ صامدةً راسخةً وفيّةً لمَعقل الآباء والأجداد، فهاهُم اليوم يُعلنون رغبتهم الجامِحة في العودة إليها والإقامة فيها إقامة دائمة، ولكن ((حَبسَهُم العُذر))!! فمنهم من تُعيقه ظروفه العائلية أو العمليّة أو مَصالحه التجارية التي تستلزم مُتابَعةً يومية، امتثالاً للإستراتيجية الاقتصادية النجدية السديدة(ديرتك التي تُرزَق فيها).. وبحمد الله فإنّ جموع الأهالي يُشِيدون بِكُم وبدعمكم وجهودكم، ويفخرون بعطائكم المتناهي واهتمامكم الاستثنائي، وسعيكم الدؤوب في انهاض مدينتكم وإنمائها، وانخراطكم في جمعياتها ولجانها وفعالياتها، مُقدِرين جميعاً خطواتكم المبارَكة والمُتلاحِقة في عموم مشهدنا الشقراوي، كاتجاه بعضكم لتشييد عِماراتٍ جديدة، أو استراحات خاصة، أو ترميم بيتٍ شعبي، أو شِراء مزرعةٍ صغيرة، أو استئجار شقةٍ سكنية، تكون مُحَفِزاً لكبارِكم وتربيةً لأجيالكم على حضورٍ دائم مُتتابع، وإنْ كنتم ترَونَ ذلك انتقالاً جُزئياً منقوصاً، فإننا نَعدُّه انتقالاً كُلياً مُتكاملاً (وما لا يُدرَك كُلّه لا يُترَك جُلّه.. وحسبُكَ مِن القلادة ما أحاط بالعُنق) ومما يُبهِج ويُسعِد أنّ هذه التحولات والمُبشِرات تنسحبُ أيضاً على المُدن الرئيسية في إقليمنا العريق، وسيجني وشمنا الأشَم ثماراً يانعةً في عشريَّته القادمة بمشيئة الله.. فشكراً وافراً لكل من أبدَى اهتماماً بمدينته حسبَ امكاناته المُتاحة، سواءً بوجاهته الشخصية، أوعلاقاته المُجتمعية، أو قُدُراته المالية، أو تغطياته الإعلامية، أو خِبراته الإدارية والخيرية والثقافية والتوثيقية والتسويقية والرياضية، أو بمُقتَرحاتٍ عبْر وسائله التواصليّة.. [باختصار] لا يَحقِرنَّ أحدنا من المعروف شيئاً .. والخِتام لشاعر الشام عُمر أبي ريشة: وجُدودي، ألمَحُ الدهر على ذِكرِهِم يَطوي جناحَيهِ جَلالا بُورِكتْ صحراؤهُم كَمْ زخَرَتْ بالمروءاتِ رِياحاً ورِمالا فنَما المجدُ على آثارِهِم... وتَحدَّى، بَعدَ ما زالوا الزّوالا هؤلاء الصِّيد قومي فانتسِبْ إنْ تجِدْ أكرمَ مِن قومي رِجالا *شقراء