الإنسان المتعري وإنسان العيب الأول.
إلى هذه اللحظة لم يستطع العلم أن يساعدنا على كشف ما تضمره الصدور وتخفيه النوايا، ولو استطاع في الزمن القادم أن يصنع آلة تخبرنا بما يخفيه بعضنا لبعض من حب أو كره، احترام أو ازدراء، وتعرية للنوايا، حينها ستُدمر الكثير من العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، وسوف يكون الحال بالنسبة للمجتمع كثكنة عسكرية . شعرت بالخوف وأنا أقرأ السيرة النبوية التي كتبها “هشام جعيط” لأن حياة النبي الكريم في المدينة مع نهاية الدعوة كانت مرعبة بسبب المنافقين. يخبرنا القرآن عنهم لكنه لم يفصح عن أسمائهم (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين). سورة التوبة - آية 101، كان الجانب المطمئن هو أنه ليس من المهم أن تعرف من هم المنافقين كأفراد، ولو عرفوا كأفراد لظهر التخوين واندلعت حرب أهلية في تلك الفترة الصعبة. والجانب الآخر هو أن تأخذ الحذر والاستعداد لأنك تعيش بينهم فلا تغتر بجميل فعلهم وقولهم . ثار فيصل الدويش زعيم “إخوان من طاع الله” مع ضيدان بن حثلين وسلطان بن بجاد ضد الملك عبدالعزيز بحجة أنه والى الكفار وأرسل ابنيه سعود وفيصل إلى دول كافرة من وجهة نظرهم. حاربهم الملك عبدالعزيز فهرب ابن بجاد إلى الكويت، وأُسر ضيدان، أما الزعيم فيصل الدويش فقد جرح في المعركة وأُسر، فجاء إلى الملك عبدالعزيز زوجته وابنته تبكيان وتطلبان من الملك أن يعفو عنه، عفى عنه الملك وأمر طبيبه الخاص بمعالجته. وبعد أن عادت له الصحة ثار مرة أخرى. حاربه الملك عبدالعزيز مرة ثانية فهُزم وولى هارباً إلى العراق وأرسل إلى “جلوب” المفتش البريطاني في العراق أنه تحت أمر بريطانيا العظمى ومستعد لخدمتها. طلب الملك عبدالعزيز من المندوب البريطاني تسليم فيصل الدويش، فأرسلته بريطانيا مكبلاً إلى الملك عبدالعزيز بعد أن تعرت نواياه وكشف عن مكنونات قلبه في رسالته إلى جلوب. وقف بين يدي الملك عبدالعزيز ذليلاً ودار بينهما حوار هو في غاية الذل والخزي والعار بالنسبة لفيصل الدويش. أمر الملك بسجنه إلى أن مات في سجنه في الرياض. وانتهت حركة الإخوان بعد أن تعرى قائدهم، قال الملك عبدالعزيز عندما جاءه فيصل الدويش مكبلاً من العراق: (اليوم سنحيا حياة جديدة)، فقد كان الإخوان يعترضون على كل جديد ووقفوا حجر عثرة أمام خطوط التلفون والتلغراف والتعليم النظامي والمعاهدات والصداقات بين الملك عبدالعزيز ودول العالم بحجة حماية الدين من الكفار. لم يكن فيصل الدويش يهمه أمر الدين بقدر أن يكون ملكاً كعبدالعزيز، وهذا ما وضحه في رسالته لجلوب، تعرى فيصل الدويش أمام الملك وأمام المجتمع. إنسان العيب الأول له حياتين تفصل بينهما لحظة هي أصعب اللحظات وأكثرها تأثيراً في حياته مستقبلاً. هي اللحظة التي تفصل بين أن تكون قديساً أو تكون عاهراً بين أن تكون صالحاً أو تكون فاسداً، بين الحياتين فرق شاسع وقد عبر عنها الله في قصة يوسف (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه). سورة يوسف ـ آية 24. صراع النفس القاسي بانتظار من يغلب من برهان الضمير فينتصر الإنسان لمبادئه وقيمه أم برهان الشيطان فتنهار منظومة القيم والمبادئ ويذوق الإنسان جرعة الكأس الأولى. يوسف إدريس شرح هذه اللحظة في رواية (العيب). “سناء” بطلة القصة التي تم تعيينها في مصلحة حكومية يسيطر عليها الذكور، كانت سناء صاحبة مبدأ وقيم، ظلت صامدة في وجه زميلها الفاسد خُلقياً رغم محاولته الكثيرة الفاشلة حتى يئس منها. لكنها مرت بضائقة مالية شديدة علم بها جميع الزملاء في العمل وظلت مع ذلك صامدة إلى أن ظهر في مسرح القصة تاجر فاسد، يقول عنه يوسف إدريس: “تاجر اعتاد أن يفسد الموظفين بماله”. تم الرهان بين التاجر الفاسد والموظف الفاسد على إفساد سناء. أغراها التاجر بالمال حتى لانت وجرعت الكأس الأولى. في اليوم التالي علم كل من في المصلحة بهذه الرشوة، كلهم صدقوا إلا الزميل الفاسد، ظل واجماً كيف خسر الرهان؟ كيف انهارت سناء في تلك اللحظة؟ بل إنها وافقت على أن تخرج في موعد غرامي معه بعد أن فُضح أمرها في المصلحة، وكان قد يئس منها. صوَّر يوسف إدريس هذه اللحظة بكل عبقرية وكل جمال الحبكة القصصية والتصوير الدقيق للحظة الضعف الإنساني وكأنك تشعر بالخزي والعار. سُئل عباس محمود العقاد عن أسعد يوم في حياته؟ فقال هو اليوم الذي كسب فيه ضميري وخسر فيه جيبي. مر عباس محمود العقاد بلحظة العيب الأول ولكنه انتصر عليها فكان ذلك اليوم الذي انتصر فيه هو أسعد أيام حياته.