هل لا زلنا اجتماعيين أم للتكنولوجيا تأثيرها على علاقاتنا الاجتماعية؟

عُرِف أزلياً من ابن خلدون أن الانسان اجتماعي بطبعه، يأنس بغيره ويعيش بينهم، فعلى مدار الحضارات الانسانية سعى لأن يؤسس وحدته والتحام ترابطه بإيجاد عشيرته وبني جلدته وظفِر في صولاته وجولاته. وإلا ما خُطّت دواوين صوّر فيها ابن معمر روعة الحُب مع بثينة، أو عذوبة اللقاء في عيّني المتنبي حين أنشد: وإني لأهوى النوم في غير حينه/ لعل لقاء في المنام يكون، أو حلاوة الانتماء عند الفيصل، وكذلك كبرياء القصيبي في بيته الشهير: ونحن جزيرة العرب افتداها/ ويفديها غضارفةٌ وأسد، والبدر في مرارة الافتراق وحرارة الاشتياق، وما خلدّته الخنساء من شعر الرثاء فبكينا جميعاً في: كأن عيني لذكراه إذا خطرت/ فيض يسيل على الخدين مدرارُ. كلها عبّرت عن تفاعلات الانسان مع مجتمعه وبيئته، ورسمت استئناسه بمن حوله، ولذعه وحدته ولوعة غربته. فقد صدق البارودي حين أنشد قائلاً وما تحْسُنُ الأيام الا بأهلها ولا الدار الا بالصديق الملائم وأما الرافعي فقد أجاد الوصف في رقة حنينه وسمو مشاعره حين قال: “ ويفرغ المكان فيدل على قدّر من كان فيه”، فما الحياة بنظره سوى خليل يقاسمك حلو الحياة ومرها. وشاهد ذلك أيضا أن الانسان منذ الخليقة وضع أهدافاً جماعية بجانب غاياته الشخصية، واعتزم تحقيقها وتوسيع نفوذه ومداركه وابتكاراته واكتشافاته ليشاركها العالم أجمع لكن اليوم اختلفت صنوف العيش عن الأمس، ورسمت الحياة لنا أشكالاً جديدة، ولها دائما الأحقية فيما تهبه لنا، وإلا ما قيل لنا تجري الرياح بما لا تشتهي السُفن. نُظم متقدمة اتسعت معها معارفنا ومستوى فهمنا، وصار جليًا ما كان خفياً، تجلس في راحة بيتك وتصل لأقصى صديق، وترسم أهدافاً بعيدة فتتعلم أبجديات تصلك بالغير، وتتثاقف فيغدو العالم بذلك عالمًا صغيراً، بينما لازلت أنت في دارك. التكنولوجيا الحديثة أخذتنا لمنحنى آخر من الحياة الاجتماعية وجعلتنا نتشابك مع الاخرين، ولكن بأساليب فريدة، في الماضي كنت على بُعد خطوات أصل لمنزل صديقتي، ولكن اليوم لم أعد بحاجة لتلك الخطوات بوجود الانترنت أصلها في ثواني، ولو علمت بلقيس ما وصلنا له لتأست على عرشِها أكثر. التقنية اليوم سهلت و يسرت الكثير مما استصعب سابقا، وفي الوقت ذاته أرست علينا بوجوه جديدة من العلاقات والتفاعلات الاجتماعية، فما عاد اجتماع غداء بيت الجدة يوم الجمعة يحضره الجميع، أو حلوى عصر السبت يتقاسمها أطفال الحيّ، أما الآن فإن مجموعة الواتساب تتسع للآلاف من المحادثات وعشرات الأشخاص الذين كان يوسِع أحدهم للآخر في المجلس، و تطبيقات أخرى عليك أن تكون حاضرا فيها يوميا بتحديث حالتك حتى يُحفظ فيها كرسيك، فالحضور و الاحتفاء به لمن باقة الانترنت خاصته لا محدودة، و البيانات لديه مسموحة أياً كان حجمها، فهو بذلك رئيسا ومتابعاً للرعية، أو شيخا للقبيلة الافتراضية. لكن السؤال هو: هل ذلك متعة لحظية أم انها تُحفر في الذاكرة فتحلو اللحظات وقت استرجاعها، وهل لقاء واحتضان حبيب والشعور بأن بينك وبينه فقط مسافة جلوسه، أو هل رؤيته وهو يلتقط أنفاسه بعد الركض إليك هي ذاتها تتجسد في رسالة نصية أو صورة سناب تشاتية؟ * عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل