سلطة العين.. بين الحب والتهديد.

تتعدد أنواع السلطة، منها المادي كسلطة القوة التي يمارسها الإنسان على آخر، ومنها المعنوي مثل الأعراف والتقاليد. لكن هناك نوعًا آخر من السلطة، الخفية، غير الملموسة، التي تفرض حضورها من دون أي أثر. العين، العضو الصغير الذي نغفل عن قوته، تحمل بين رمشيها سلطة هائلة تمتد لتشمل العالم بأسره. فهي تبث رسائل مشفرة تحمل الحب، الغضب، التهديد، الإعجاب، والمشاعر التي تشكل حياتنا اليومية. النظرة المحبة قد تنقل الأمان، وتبني جسورًا من التفهم، بينما النظرة الحاسمة قد تفرض هيمنة في المواقف الصعبة، وتوجه رسائل من القوة النفسية. عندما نوجه نظرتنا إلى مريض أو إلى شخص مسن، فإنها تتجاوز مجرد النظر البسيط إلى العالم الخارجي، لتكون تعبيرًا عن الاحترام والاهتمام. تلك النظرة يمكن أن تحمل في طياتها الكثير من المعاني، كأنها تهمس للمريض أو الكبير في السن: “أنا هنا من أجلك، ولا يوجد ما يزعجني في تقديم العون لك.” فعيني الشخص الذي يهتم بالآخر تنقل شعورًا بالطمأنينة والراحة. هذه النظرة مليئة بالرحمة، توحي أن الألم الذي يشعر به الشخص الآخر ليس غريبًا على من يراقب أو يتعامل معه. إن العين التي تلتقي بعين مريض تحمل في طياتها محبة صادقة ورغبة في التخفيف عن المعاناة، وكأنها تواسيه دون الحاجة للكلمات. وفي المقابل، قد تكون النظرة أداة لإيذاء الشخص الآخر أو التقليل من شأنه. نظرة الاستعلاء أو التهكم يمكن أن تهز كرامة الإنسان، وتنقل رسالة من التحقير التي تهدم الثقة بالنفس. فالنظرة التي تحمل هذه الطاقة السلبية قد تكون أكثر تأثيرًا من الكلمات في تدمير الشخص المعني. النظرة أيضًا قد تتحول إلى تعدٍ على الحدود الشخصية، كالنظرات التي تتفحص جسد المرأة، مهددة لخصوصيتها. هذا النوع من النظرات يعكس تجاوزًا للأدب والاحترام، ويخلق حالة من الانزعاج والتهديد النفسي. لطالما ارتبطت العين بمفهوم الحسد في الثقافات المختلفة، حيث يُعتقد أن العين قد “تؤذي” أو “تؤثر” على الآخرين. هذا الاعتقاد يعكس القوة الخفية التي تملكها العين في حياتنا اليومية، حتى من دون أن ندرك تأثيرها. فبمجرد نظرة يمكن أن تتغير مشاعر الشخص الآخر، سواء للأفضل أو للأسوأ. النظرة ليست دائمًا ناتجة عن تفكير عقلاني، بل غالبًا ما تعكس العاطفة. كم مرة نظرنا إلى شخص نحبه فتراءت لنا صورته أجمل مما هي عليه؟ العين بهذا المعنى تحمل قدرة على تجميل الواقع، وتمنح الشخص المعني خصائص قد لا يكون ملموسة في الحقيقة. في الإسلام، فإن للعين والقدرة على النظر أهمية كبيرة، حيث تُعتبر العين في الإسلام أداة قوية يجب أن تستخدم بحذر. ورد في القرآن الكريم في العديد من المواضع، منها في سورة النور، حيث قال الله تعالى: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم”. هذه الآية تدعو إلى ضبط العين وحمايتها من الانحراف، ليس فقط عن طريق تجنب النظر إلى المحرمات، بل أيضًا في كيفية استخدام هذه القدرة البصرية تجاه الآخرين. العين ليست مجرد أداة للرؤية، بل هي أداة تحمل رسائل أخلاقية عميقة. فالنظرة قد تكون أداة للتواصل الحسن، أو أداة للتهديد والتجريح. لهذا جاء أمر الله تعالى للمؤمنين بغض البصر، ليس فقط لتجنب المحرمات، بل لتدريب النفس على ضبط هذه السلطة واستخدامها بحذر، حتى لا تتحول النظرة إلى أداة للإيذاء. “غض البصر” لا يقتصر على مجرد عدم النظر إلى ما حرمه الله، بل يمتد ليشمل كيف يجب أن نتعامل مع الآخرين بنظرة مليئة بالاحترام والرحمة. في الحديث النبوي الشريف، نجد أيضًا توجيهًا في كيفية التعامل مع العين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين”. هذا الحديث يعكس أن العين تحمل في طياتها قوة قد تؤثر على الشخص، ولهذا يجب أن تكون النظرة بعيدة عن الحسد أو التمني للشر. وهذا يتوافق مع توجيه الإسلام في ضرورة التمني للخير للآخرين، بما يتماشى مع الأخلاق الإسلامية التي تروج للمحبة والرحمة. في النهاية، تبقى العين لغة صامتة، أقوى من الكلمات. هي نافذة على مشاعرنا، تعكس قوتنا وضعفنا، محبتنا وكراهيتنا، احترامنا وإهانتنا. لذا يجب أن نكون واعين بكيفية استخدام هذه السلطة البصرية، لأن كل نظرة تحمل رسالة تؤثر في العلاقات الإنسانية بشكل أعمق مما نتخيل. فلنجعل من نظراتنا أدوات لبناء جسور التواصل والحب، لا للتهديد أو التقليل من قيمة الآخرين. فكما يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا” (الإسراء: 36)، فكل حاسة من حواسنا، بما في ذلك العين، ستسأل أمام الله عن كيفية استخدامها. وفي النهاية، على الرغم من عمق ما تحمله العين من رسائل وأبعاد، تبقى بعض النظرات بسيطة وطريفة. مثل قولنا: “القرد بعين أمه غزال”، حيث تتحول النظرة من مجرد أداة حكم إلى تعبير فكاهي يعكس النظرة المبالغ فيها أو المحبة المفرطة التي قد تراها الأم في طفلها، مهما كانت صورته بعيدة عن الجمال التقليدي. فالنظرة، إذًا، قد تكون أيضًا خفيفة الظل، كما في هذه الصورة الطريفة، التي تذكرنا بأن العين قد تكون مليئة بالمحبة حتى في أبسط صورها.