من أعماق البلاد التونسية و تفاصيل حياتها بتقاليدها و مناسباتها و ما تعيشه من عناصر مشهدية مفعمة بالتراث و العادات ينهل الفنان التشكيلي عزالدين البراري في تجربته الفنية الجمالية و التشكيلية و الثقافية حيث راكم و خلال حوالي خمسة عقود عددا مهما من الأعمال الفنية تتمثل في لوحات مختلفة الأحجام و الثيمات و المواضيع التي تجتمع بالنهاية وفق عنوان لافت هو “ تونس الأعماق “ و هو عنوان الكتاب الفني حاضن هذه التجربة للفنان البراري الذي قدم عديد المعارض بفضاءات فنية مختلفة منها متحف قصر خير الدين بالمدينة العتيقة بتونس و برواق كنيسة سانت كروا التابع لبلدية تونس ثقافيا و برواق الفنان الراحل علي القرماسي و كذلك معارضه من سنوات برواق كاليستي و مشاركاته بالمعارض السنوية لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين الذي هو عضو به .. في هذه اللوحات يسافر الفنان عزالدين البراري بجمهور الفنون الى مناطق متعددة بتونس من حيث الأعماق الثقافية و التقليدية و التراثية في تعبيرية مخصوصة عن جمال و عراقة المدينة بتونس العتيقة و بشخصياتها و يومياتها ضمن المناسبات المتعددة ..و في هذا السياق و استعدادا لهذا الموسم الثقافي الجديد 2024/2025 أنجز الفنان البراري لوحات فنية منها لوحة “ المسرح البلدي “ كمعلم ثقافي لأكثر من قرن حيث خيال الفنان في استدعاء الأجواء العالقة بالذاكرة الجمعية بتونس من حيث المسرح و عروضه و سهرات جمهوره ..و كذلك لوحة المنصف باي بجهة حمام الأنف في حيز من ذاكرة التونسيين الذين أحبوا هذا الزعيم الذي رأوا أنه اضطهد من قبل الاستعمار الفرنسي لمواقفه و حبه للشعب حيث كانوا يدعونه ب “ سيدي المنصف “ و اللوحة معبرة بجمال و ذاكرة هامتين عن تلك العلاقة بين “ المنصف باي “ و عامة الناس ..و في لوحة “ السراجين “ بالمدينة العتيقة يستدعي الفنان البراري جانبا حميميا و بروح جديدة جانبا من ذاكرة المكان و تونس عموما ..و في لوحة “ مقهى سيدي عمارة “ و هي قيد الانجاز يأخذنا الفنان البراري الى مكان مهم بتونس العتيقة حيث بطحاء جامع صاحب الطابع و حي الحلفاوين ليبرز كذلك مقهى سيدي عمارة بطابع تقليدي وفق تفاصيل عمل عليها في هذا العمل الفني قولا بالمقهى و الرواد و ما علق بذاكرة الناس من عناصر و تفاصيل المكان..و كذلك لوحة “سيدي البحري “ هذا المكان الضارب في الزمن بمشهدياته و تفاصيله. هذه الأعمال الجديدة تنضاف للوحات سابقة منها ما اقتنتها الدولة و منها ما تم عرضه بمتحف الفن التونسي المعاصر بمدينة الثقافة و منها ما اقتناه الخواص و أحباء الفن التشكيلي و من ذلك مشهدية حفل الفنان التونسي الراحل بقبة الهواء بضاحية المرسى و العرس بضاحية سيدي بوسعيد و مقهى و مطعم البروطة بالمرسى و كذلك لوحات باب سويقة و المركاض و شارع فرنسا بالعاصمة و غيرها... هذه أجواء الفنان البراري و هو يعمل يوميا بمرسمه حيث يرى أنه الفنان الذي يحكي شيئا من سيرة المكان بل الأمكنة في أعماق تونس من خلال ما يطلقه لعنان خياله قولا بالجمال و القيمة و النوستالجيا و ...الذاكرة. ها ان الرسام يمضي عبر المعنى في تمجيد المشهدية بروحه المرحة والخفيفة ليبتكر لنا المتعة الأخرى بشأن ما تزخر به الحياة التونسية قديما وحديثا من عادات وتقاليد ومناسبات ليبرز ذاك الكم من المشاهد والحالات والأحداث في ضرب من القول بالثراء وبالامتلاء، الأسواق والأنهج والمحلات والباعة بالعربات والحرف من دعك الطين لصنع الكانون الى دبوس الغول الى العولة الى بائع الخضر والسراج بالسراجين وبائع المثلجات “الفريقولو” ونهج الباشة والعازفة والحنة والكحل وتربة الباي الى البلكون وبوقرنين والطبيعة الجامدة... وهكذا...كون من الاحاطة التشكيلية والجمالية باتجاه ما هو كامن فينا من تلوينات الحياة الزاخرة بالأصوات وبالشجن وبالذاكرة. الدخول الى عالم الفنان عزالدين البراري هو ضرب من المثول أمام مرآة الذات التي تمنحنا حيزا من الدفء في هذا البرد الكوني المريع. مشاهد وصور من وصف حالتنا التونسية ضمن الأهمية القصوى لهذه الخصائص والمميزات في التراث الثقافي اليومي التونسي...الفنان التشكيلي البراري يأخذنا طوعا وكرها الى مشاهد من سحر وفتنة ليضعنا في حضرة الفن وهو يبث جماله قتلا للآلي والروتيني وكل ما هو فينا من جمود وكسل نحتا للقيمة ونشدانا للثراء الوجداني..مشاهد فيها الكثير من المتعة واللمعان لابراز جانب مهم من حيوية ودأب الكائن التونسي وفق ذاكرة خصبة تمجد العراقة والأصالة وتمدح الينابيع...بين لوحة عازفة البيانو ولوحة اعداد المشموم ولوحة صنع الكانون ولوحة العولة ولوحة المقهى.. وغيرها، خيط جمالي رابط يعكس ذاك العمق الثقافي لليومي التونسي منذ بدايات القرن الماضي والى اليوم، وكأننا بالفنان البراري يحرس الذاكرة بمهارة معلنا وفاءه النادر للجميل في تفاصيلنا الذي يكاد يندثر بفعل العولمة والأنماط الجديدة الوافدة على ثقافتنا بغير روح وحياة..في أعمال عزالدين البراري التشكيلية غوص في أعماق ذاكرتنا التونسية، فاللوحات على اختلاف مواضيعها تصب في خانة الأصيل من تاريخنا ووجداننا وذلك وفق لمسات فنية غاية في التعبيرية والبساطة العميقة. أعمال هنا وهناك ومسيرة مهمة مع الفن جعلت الرسام البراري حالما باستمرار وفي انتظار اللوحة التي لم تنجز بعد. لقد كانت مناسبة معرضه الشخصي برواق كالستي مجالا للحديث اليه وهو بورشته التي هي بمثابة خلوة الفنان وببيته بحي النجاح وعلى مسافة لا تذكر من “البلاد العربي” التي أحبها ومنحها لوحات عمره من خلال أحيائها، باب الجديد وباب سويقة والحلفاوين ونهج الباشا و.. و.. الى جانب حضور الحومة كفضاء سوسيو ثقافي في عدد من أعماله.....البراري ..فنان يعمل ولا يعنيه غير المضي أكثر في تجربته وعطائه للفن. ..يسافر بالرسم و التلوين في عوالم متعددة من تونسس الجميلة..من أعماق تونس التي تلهمه و تغذي ذاكرته و فنه و لوحاته.