العزلة والصخب في مندوب الليل.

في أفق السينما السعودية، يطل فيلم “مندوب الليل” كواحد من الأعمال التي تتناغم فيها الحرفية السينمائية مع الحكاية الاجتماعية، ليصوغ لنا صورة من واقع مدينة الرياض التي لا تخلوا من التعقيد والتحدي. يختار المخرج علي الكلثمي أن يغمسنا في عالم شخصيته الرئيسية، فهد القضعاني، الذي يعيش حياة أشبه بالعزلة على الرغم من زحمة المكان والوقت. فهد، الذي يقضي لياليه متنقلًا بين أحياء المدينة كمندوب توصيل، يعيش في قلب مدينة لا تتوقف عن الحركة بينما هو غارق في حالة من الضياع الداخلي، لا يربطه بمحيطه سوى اللحظات العابرة التي يعيشها مع الغرباء. من خلال هذه الشخصية التي نلمسها أكثر من أن نراها، يتناول الفيلم قضية وحدة الإنسان في عصر تتسارع فيه الحياة، ويفقد فيه البعض القدرة على إيجاد معنى لحياتهم في خضم هذه الفوضى. الفيلم لا يتبع السرد التقليدي الذي يعتمد على تسلسل الأحداث السريع أو الحوارات المتدفقة، بل يشدنا إلى داخل نفس فهد، حيث نرى العالم من خلال عينيه، مليئًا بالشكوك والفراغ، حتى أن الحركة نفسها تصبح جزءًا من العزلة التي يشعر بها. التصوير البصري يلعب دورًا رئيسيًا في رسم هذه الأجواء. الكاميرا قريبة، تكاد تلامس وجه الشخصية وتفاصيل جسده، مما يخلق شعورًا مكثفًا بالقرب والوجود في عالمه الضيق. لا تسعى الكاميرا لالتقاط مشاهد خارجة عن هذا العالم الصغير، بل هي مجرد وسيلة لتوثيق التجربة الداخلية لفهد، ولإيصال شعور متواصل بالقلق والتوتر النفسي الذي يعايشه. لكن ما يجعل هذا العمل مميزًا هو الأداء المدهش للفنان محمد الدوخي، الذي يحملنا بكل ثقل شخصية فهد على كتفيه. في أدائه لا يوجد شيء مفتعل أو زائد، بل هو الأداء الذي يعتمد على الهدوء والتأمل، معبرًا عن كل حركة وصوت وكل صمت يحمل معاني عميقة. الدوخي يختار أن يترك لنا المجال لقراءة مشاعر شخصيته دون الحاجة إلى الكلمات، وفي هذا الصمت تتكشف عمق الأسئلة التي تعيش في داخل فهد: هل هو ضحية ظروفه؟ أم أن عزلته هي نتيجة اختياره؟ هو حائر بين كونه ضائعًا في عالمه الخاص وبين سعيه المتواصل للهروب من ذاته في شوارع المدينة. رغم جماليات الفيلم في تقنيات التصوير والأداء، لا يمكن تجاهل بعض الجوانب التي قد تشعر البعض بنوع من البطء في تقدم الأحداث. الحوار قليل، والتركيز على المشاهد الصامتة قد يكون أحيانًا ثقيلًا على من يبحث عن أحداث أكثر تحركًا. لكن هذا السكون، في الحقيقة، هو ما يمنح الفيلم عمقه، إذ أنه يرفض التسرع في تقديم الحلول أو التفسيرات، ويترك للجمهور مهمة فك شفرة هذا التوتر الذي يحمله فهد على عاتقه. “مندوب الليل” ليس مجرد فيلم يروي قصة شاب يعمل في خدمة توصيل. إنه تجربة سينمائية تتنقل بين الأسئلة الوجودية والقلق الداخلي، بين الذات والمجتمع. إنه دراسة مدهشة للانعزال في عالم مليء بالاتصالات، ولكن على الرغم من تداخل الحروف والصور، يبقى فهد في نهاية المطاف سجينًا لهذا العالم الذي يختار أن يظل فيه رغم كل شيء.