مقام النفس والكلمة.

يُعرّف الكلام عند النحويين بأنه “اللفظ المركب المفيد”، ويشترط فيه أربعة أمور: أن يكون لفظًا، وأن يكون مركبًا من كلمتين أو أكثر، وأن يكون مفيدًا. وبالمفهوم العام، يُعد الكلام لغة التواصل بين الناس، وأداة أساسية للتعبير عن الأفكار والمشاعر. لكن الكلمة قبل أن تتحول إلى “فعل”، أوجب الدين والأدب انتقاءها بعناية قبل النطق بها. ولهذا جاءت الآية الكريمة لتحذرنا من مغبة الكلام غير المسؤول: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”. هذه الآية تؤكد على أهمية مراجعة الكلمة بعرضها على ميزان العقل والاتزان قبل التفوه بها، لأن مسؤوليتها تقع على عاتق المتلفظ بها دينيًا وقانونيًا. وقد نبهنا رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، إلى خطورة الكلمة في الحديث الشريف. عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: “لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان…” إلى أن قال: “ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟” قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه وقال: “كُف عليك هذا”. فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: “ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟”. هذا الحديث وغيره من الأدلة الشرعية يبين لنا أن الكلمة ليست مجرد لفظ يجري على الألسن بسهولة، بل تحمل قيمة إيجابية أو سلبية. فإن لم نراعِ فيها الأدب، واللفظ النزيه، والسياق المناسب، ستبقى وصمة ندم وسقطة تجر على صاحبها عثرات دنيوية وأخروية. من لم يكن قادرًا على عرض رأيه بحكمة وأدب واحترام للإنسانية، فصمته أولى. كما قال الشاعر: ما إن ندمت على سكوتي مرةً ولقد ندمت على الكلام مرارًا وفي زمن الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي، أثبتت الحوارات فيها أن البعض - هداهم الله - اتخذوا البذاءة والفحش في القول أسلوبًا للرد، ظانين أن نصرة الدين أو تحقيق الوطنية لا يكونان إلا بعلو الصوت وتجاوز الأدب. هؤلاء، للأسف، يغفلون عن أن إثبات الحق لا يكون إلا بأدب المنطق والحكمة في الكلام. كما أن الاختلاف مع الآخرين لا ينبغي أن يقودنا إلى مجاراة السفهاء في الردود أو إسقاط قيمنا الأخلاقية. الحكمة، كما جاء في الحديث الشريف، “ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها”. فبدلًا من مجاراة سفهاء الإعلام، يجب علينا أن نرتقي بكلامنا، ونسعى إلى إبراز الأخلاق الكريمة التي تعكس قيم ديننا ومجتمعنا. خاتمة: الكلمة مسؤولية، والصمت في كثير من الأحيان حكمة؛ فلا تضع نفسك في مواضع الندم على ما تقول.