سماء سارحة.

أهلا بكم في سماء السرحان. كانت تلك هي العبارة التي قرأتها عيني حين دخلتُ تلك القريّة، وهي الزيارة الأولى لي، حيث كانت السماء ساحرة سارحة بكل شيء بصفائها وسحبها المتقطعة ونسيمها العذب، حين دلفتُ إلى تلك القرية نهضتْ أشجارُ الزيتون حالمةً، والحجارة تبدو متوهجة من أثر الرياح الخفيفة والشمس الساطعة، بينما تبدو الطرقات ملتوية كأنها ترقصُ فرحًا بقدوم زوّارها، اللحظات الأولى كانت تضع في قلبي لهفة الرجوع إلى شكل إنساني طبيعيّ بعيدٍ عن عالم التقنية. تبدو المحلات صغيرة وما فيها يمثل احتياجات يومية لكل أسرة، لا أحد يشتري كلّ شيءٍ إنّما ما يحتاجه في يومه أو أسبوعه، في الطريق أشاهد الأطفال يعلبون كرة القدم، ويضعون المرمى حجريْنِ متباعديْنِ، الأطفالُ الصّغارُ في المجموعة هم من يقومون بدور حارس المرمى غالبًا إلا إذا كان هذا الصغير ذا شخصية ومهارة كرويّة جيدة، بينما الكبار هم من يوزعُ اللاعبين وهم من يملك الكورةَ في أكثر أوقات اللعب، كانت أصواتهم ترتفع حين عبرتُ الطريق وهم يلعبون بكلمات غير واضحة. في عبوري نحو بيت صديقي أبي محمد تظهرُ أسوارُ البيوتِ قصيرةً والأبوابُ مفتوحة والملابس منشورة في الساحات الخارجية، والأشجار تُطل من ورائها عرائسُ راقصة، بينما الأحاديث تتجاوب مع الهواء الطلق لتتوزع الكلمات في أفياء القرية كأنّها تتعانق بكل ودّ ومحبة، تظهر بين البيوت جلسات عائلية تجمع الصغير والكبير فيها ينمو الحب والحنان في سطوح المنازل وإطلالاتهن يحتسون القهوة والشاي، تلمح عيني فتيات صغيرات ناهدات كأنهن درّ مكنون، العلامة البارزة هي البساطة في كل شيء، الملبس والمأكل والمشرب والمسكن حتى إنّ بعض البيوت تخلو من مبردات الهواء، وحتى الأحاديث تخرج باسمة مليئة بالكرم والطيبة وحسن التعامل ولطافة العبارة. اتخذت قائدي موجه الموقع في هاتفي المتنقل الذي دلني على بيت صديقي أبي محمد، حين وقفت عند البيت استقبلنا بحب وحنان وجمال. شردَ الذهنُ قليلاً لأيام عملنا بها سويًّا في مكان واحد، ما زال قلبه أبيضَ، هكذا قلت في نفسي، كان جلستنا حول نافورة تعزفُ بنغمات الماء، وكان الحديث بيننا مليئًا بالذكريات حينًا وبوصف هذه القريّة الساحرة حينا آخر، بينما تحيطنا عناقيد العنب وأشجار الليمون ونسمع أصوات العابرين. شعرت بالوقت يمضي ويسابقنا وما زال في النفس بقيّة أحاديث، فأردنا أن نسابقه بجولة في أرجاء القرية لنرى بساطتها ومساجدها وحقولها ومزارعها وأوديتها وأعراسها ومحلاتها، ونشاهد مزارع الدراق والمشمش التي ترفع أوراقها وكأنّها تسلم مشتاقةً وتدعو للقادمين عليها بسلامة دائمة ثم تضحك مبتسمة لكل من يقطفها، إنها ترفع أوراقها حبا وتهب ثمارها كرما. حين يطل الليل في القرية الحالمة لا أحد ينام، بل تضيء نجومه لتسمع الكلمات التي تعانق نور القمر تصدر من بين أسطح المنازل، الكلّ يسهر، فأنسام الليل العليلة تهبك عالما آخرَ يذهب بقلبك وعقلك إلى إطلالة في عالم فيروز بعيدًا عن ضجيج المدنيّة وصخب الحضارة. في ساعة متأخرة من الليل أخذت مضجعي بعيدًا عن أجهزة التكييف الصناعية، فالأجواء الباردة تدعوك للنوم وأنت تبحث عن الدفء مع هبات النسيم، لكن الليل في القرية يرافقه أحاديث السمر ونباح الكلاب، إنّها تعيدني إلى أيّام خالية في طفولتي، كنتُ فيها أنام في ساحة بيتنا قريبًا من مرابض الماشية لا لحاف إلا السماء ولا فراش إلا الأرض، ولكنّ هذه الأصوات تبدو بالاختفاء كلما اقترب الفجر من البزوغ فما إن ْيؤذن لصلاة الفجر حتى تأخذ الديكة دورها ويبدأ عملها بصياحها والعصافير بزقزقتها والحمام بهديله، وتبدأ الشمس تأخذ حيزها في السماء لتنام العيون الساهرة وتخلد القرية الساحرة. *سما السرحان