لا أستطيع أن أقول إنني أشعر بالوحدة تمامًا رغم وحدتي الجسدية وضياعي بين جدران غرفتي الفارغة والمخططة بالشقوق والانهيارات الصغيرة، بل أشعر بالخوف فقط. الخوف يأكل كياني كله. كلُّ ليلةٍ أهوي في مزالق فكرية خطرة لا جدوى منها. المشوار الوحيد الذي أحس فيه بالأمان هو عندما أذهب لإحضار الخبز من مخبز الحي قبل أن تمتلئ الحارة بالشمس؛ لأن لا أحد يراني جيدًا في غبش ظلمة ما قبل الفجر، ومعظم الناس نيام. أما عندما أخرج في الأوقات الأخرى، فإنني أواجه شتى أنواع الوجوه الغاضبة والباسمة، الساخرة والمكفهرة، الرحيمة والقاسية، وأنا مطبق الفم مشغول البال كضوضاء ترتج وراء جدار أصم. حركاتي في البيت روتينية رتيبة: أقفل وأفتح الثلاجة الفارغة التي حصلت عليها أمي من مكب جيراننا الأغنياء قبل سنة، أفتحها وأقفلها مرارًا دون غرض. رائحة الثلاجة الفارغة من الداخل كرائحة فم قذر، أتأمل الفجوة بين سني الأماميين الوحيدين أمام مرآة المغسلة وأخرج لساني من بينهما، أتخيل أنني حرباء تصطاد بلسانها اللزج من مسافات بعيدة، وأحيانًا أتخيل أنني أفعى غاضبة فأرتبك ويصيبني الخوف. أغمس وجهي في فساتين أمي وأثوابها المعلقة في الخزانة وشراشف صلاتها المركومة في وسط الصالة؛ فتزداد نبضات قلبي وتتضاعف، وفوق ضحكة فمي الواسع تسقط دمعة من الأعلى، أطعمها، أتلمظها بحسرة وأخبئها في جوفي، حسنًا ها قد عرفتم وجبة إفطاري كل يوم. وعندما يفيض بي المنزل فإنني أتهادى مُطرقًا نازلًا أدراجه بصمت وحذر. الأوساخ المتراكمة في عتبات الدرج تشي بالإهمال وتقادم المنزل في ظرف أسبوع. بعد أن فارقت أمي الحياة شاخ كل شيء واتسخ. كان جسمها الضئيل العاج بالسعال يمنحني الدفء، تقول لي بوجه مجعد والدموع تتساقط منها كلما ألبستني ملابس العيد: “الله يعوض عليك في شبابك يا متعب!” لا أعرف معنى هذا الكلام، أخرج لها رأس لساني من بين فجوة سنيّ، لعلني أصطاد حشرة الحزن التي تحوم فوقها، تعيد تلك الجملة بصوت مرتعش وتشيح بوجهها بعيدًا عني كأنها تنظر إلى شخص ما في الجدار، ولكنني أيضًا لا أفهم شيئًا، فأُقارب أصابع يدي من بعضها البعض وهي معقوفة على هيئة قلب وأصوبه نحوها، فيحبل وجهها الضامر بابتسامة لينة وصغيرة. أركض نحوها بينما يداها النحيلتان مشرعتان لي، أرتمي على نحرها فتدثرني بطرحتها وتدغدغني فنضحك سويًا، وسط ضحكتها أسمع في صدرها خرخرة خشنة وقبل أن يثقب السعال حلقها أضع طرف الشال الذي لا يبارح رقبتي على فمها المكوّر كالقمع، تسعل فيه وهي تمانع ذلك، ولكنني أتلقف أوجاعها وشلالات رذاذها الصغيرة بتصميم باهر لأشتمها ممرًا إياها إلى أقصى خلية في رئتي. إن لرذاذ أمي المتطاير رائحة مُنعشة كرائحة الحبق، أعتقد أن لفيفَ شتلات الحبق المزروعة في الحوض الصغير أمام باب بيتنا قد نشأت بذروها من رذاذ أمي وأنفاسها التي كانت تهرب منها في كل سعلة مدوية وتقص أوراق أمومتها بتشفٍ وانتقام. الناس شرساء أفظاظ، بعضهم حين يرونني كانوا يمططون عيونهم بأصابعهم الفاسقة ويركضون ورائي: “مغولي، مغولي!” وبعضم يشدني من الشال الكشميري المعقود دائمًا على رقبتي ويركض بي وقبل أن أختنق تمامًا يفلت طرف الشال فأقع على وجهي متفجرًا بالسعال، ومنهم من يزمّ فمه ويصيح كالقردة المسعورة وهو يحك ضلوعه ويتقافز في مشيه فأبول في بنطالي من الرعب وأهرب إلى أمي التي تأخذني تحت صنبور الحمام وتنظفني من لطخات الأوساخ وهي تشجعني: “سوف تكبر وتأخذ حقك منهم يا ولدي!” مرة سلّحتني أمي بمقلاع خشبي عريض أحضرته من إحدى الدكاكين، وحاولتْ أن تعلمني كيفية استخدامه عندما يهاجمني المتطفلون. وضعتُ حجرًا مناسبًا في جلدة المقلاع وشددت دزينة المطاط المترابطة حتى آخرها في وجه أحد المتنمرين، لكنه ظل يضحك في وجهي ويهزأ بي، جننت، لم أستحمل، أطلقت عليه القذيفة، ولكن بطريقة ما ارتطم الحجر في فمي وسقطتُ أبكي من الألم وقد بصقت السنين الوحيدتين في فمي. حالة أمي المادية لم تكن تسمح بشراء الحلويات لي، فنحن بالكاد كنا نأكل وجبتين أو وجبة في اليوم فقط. كان الرجل الغريب الذي يقود سيارة عملاقة هو وحده من يعطيني بعض الحلويات والبسكويت، فهو يعطيني أوراقًا صغيرة مطوية ويطلب مني أن أسلمها لسميحة بنت جارنا في البيت الملاصق لنا، فأركض بجريتي المهتزة وأجد سميحة مضطربة وراء باب شقتهم، أعطيها الأوراق فتدسها في صدرها وتهش عليّ بأصابعها كي أرحل وملامحها معصورة، فأحصل من الرجل الغريب، الذي يفيض وجهه بفرح طائش في ذلك الوقت، على ألواح الشوكولاتة والبسكويت والسكاكر فأقحمها كلها في فمي دفعة واحدة؛ لأنني لم أعد أملك أسنانًا، إنما لثة عارية عريضة محمرّة مثل لثة سلحفاة عملاقة، أعصر الحلويات وكريمة الشوكولا بالتذاذ وهيام حتى يفيض الريق اللزج الثقيل خارج فمي المنتفخ. منذ أن ضربني أبو سمحية بوابل من لسعات لي الغاز في بئر السلم بعد أن مزق الورقة التي كنت أحملها وخرجت منتحبًا في الشارع، لم أعد أحصل على الحلويات، ولم أعد أرى الغريب يطّوف في حينا. ماتت أمي في الشارع، صدمتها شاحنة ضخمة حين كنت ألوح لها في الشباك مبتسمًا. منعوني الجيران من الوصول إليها ووضعوني عند جارتنا، سألت سمحية “ماذا يعنون بأن أمي قد ماتت؟!” أشاحت بوجهها المتألم للبعيد وهي تعتصر وسادة على صدرها بينما كانت تشهق في خفوت: “سافرت وحين تكبر يا متعب فسوف تعود” بعد أسبوعين طردني صاحب العمارة لأنني لا أملك النقود. لستُ قلقًا لأنني الآن وجدت مكانًا جيدًا أبيت فيه، حيث المياه الباردة تتوافر بغزارة، لقد أقمت عند نافورة ميدان الحي. أما الطعام فسوف يأتيني قريبًا؛ لأنني هذا الصباح رأيت الرجل الغريب يطوّف بسيارته العملاقة حول الميدان.