“أطفال السماء”..

عندما يصبح الحذاء مرآةً للإنسانية.

(Children of Heaven) للمخرج الإيراني مجيد مجيدي هو واحد من تلك الأفلام التي تسرد أعظم القصص من خلال أبسط التفاصيل. الفيلم، الذي صدر عام 1997، يتناول الحياة من منظور طفلين يعيشان في أحد الأحياء الفقيرة بطهران. القصة تبدأ بحادثة تبدو صغيرة: يفقد علي، الطفل البكر للعائلة، حذاء أخته زهرة بعد أن أخذه للإصلاح. في بيئة يسيطر عليها الفقر، تتحول هذه الحادثة إلى مأساة صغيرة، حيث يدرك علي أن عائلته لا تملك المال لشراء حذاء جديد، فيقرر مع زهرة أن يتقاسمان حذاءه الوحيد. هذه الحكاية اليومية البسيطة تمثل بوابةً للدخول إلى عالم مليء بالرمزية الإنسانية. الحذاء ليس مجرد قطعة مفقودة، بل رمز للمعاناة اليومية للطبقات الفقيرة التي تُجبر على إيجاد حلول خلاقة للبقاء. من خلال تبادل الحذاء بين علي وزهرة، يكشف الفيلم عن واقع الطبقة الكادحة التي تُجبر على الكفاح من أجل أبسط احتياجاتها. كل خطوة يخطوها علي، وكل نظرة من زهرة إلى أقدام زميلاتها في المدرسة، تعكس معاناة تختبئ خلف الهدوء الظاهري. في عمق القصة، يبرز الحب الأخوي بين الطفلين كقوة دافعة تحرك الأحداث. علي، بشخصيته المسؤولة رغم صغر سنه، يمثل تجسيدًا للصبر والنضج المبكر. زهرة، ببراءتها وصمتها، تعكس وعيًا طفوليًا بالواقع القاسي الذي تعيشه عائلتها. العلاقة بينهما ليست مجرد رابطة دم، بل شراكة في المعاناة، وفي الوقت ذاته في الأمل. ما يميز “أطفال السماء” هو قدرته على تحويل التفاصيل اليومية إلى استعارات كبرى. العمل الشاق للأب في المدينة يعكس واقعًا أوسع لعمال الطبقة الكادحة الذين يحاولون تحقيق حياة كريمة لعائلاتهم. الأم، بصمتها ومرضها، ترمز إلى التضحيات الصامتة التي تقوم بها الأمهات في مثل هذه البيئات. وحتى السباق الذي يشارك فيه علي في نهاية الفيلم، يبدو وكأنه استعارة للحياة نفسها: الركض بلا توقف، ليس للفوز بالمجد، بل لتحقيق هدف بسيط وحيوي. في المشهد الأخير، وبعد أن يفوز علي بالمركز الأول، تنقلب مشاعره إلى إحباط لأنه كان يسعى للحصول على المركز الثالث، حيث كانت الجائزة زوجًا من الأحذية. في هذه اللحظة، يُبرز الفيلم مفارقة الحياة: كيف يمكن للنجاح أن يحمل في طياته ألمًا خفيًا. ورغم ذلك، يختتم الفيلم بصورة تحمل بصيصًا من الأمل، إذ نرى علي يغمر قدميه المتعبتين في المياه، وكأنها لحظة تطهير واستعداد لبداية جديدة. “أطفال السماء” ليس مجرد فيلم عن الفقر أو الكفاح اليومي. إنه فيلم عن الروح الإنسانية في أنقى حالاتها، عن البساطة التي تتحول إلى معجزة، وعن التفاصيل الصغيرة التي تعكس معانٍ كبرى. من خلال عدسة مجيد مجيدي، تتحول الحكاية المحلية إلى رسالة عالمية تمس كل من يشاهدها، حيث يذكرنا بأن الجمال يمكن أن يوجد حتى في أحلك الظروف، وأن الأمل يظل دائمًا حاضرًا، مهما بدت الحياة قاسية.