طه حسين والحياة الأدبية في جزيرة العرب.

كنت أعتقد كغيري أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتب بحثه (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) بمناسبة زيارته للمملكة العربية السعودية عام 1374هـ/ 1955م لرئاسة اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية في دورتها التاسعة والتي عقدت بمدينة جدة- 21/5/74- 1/6/1374هـ/ 15/1/1955-25/1/1955م-. ونشر هذا البحث ضمن مواضيع أخرى في كتاب (ألوان)، ثم أضيف لمجموعات أخرى في المجلد السادس من الأعمال الكاملة للدكتور طه حسين، والذي نشرته الشركة العالمية للكتاب فيما بعد. ولكني اطلعت مؤخراً وبالصدفة- ضمن مقتنيات مكتبة الملك فهد الوطنية- على كتيب يحمل العنوان ذاته (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) للدكتور طه حسين، الطبعة الأولى 1935هـ- 1354م من منشورات مكتب النشر العربي بدمشق وبسعر خمسة غروش سورية، من القطع الصغير وبـ 51 صفحة. مطبعة ابن زيدون: دمشق، وقد قدم للبحث بحديث للناشر قال فيه: «نشرت ترجمة هذا البحث في مجلة (open court) التي تصدر بشيكاغو بأمريكا. وقد رأى فيه الشيخ الرواف خير صورة تقدم لقراء لغة الضاد عن الحياة الأدبية في جزيرة العرب، وفي ظهر الصفحة الأولى كتب الناشر أيضاً: «لذلك استأذنت حضرة الدكتور طه حسين في نشر هذا البحث، فتفضل – حفظه الله ورعاه – بالإذن. وقد عهد الشيخ خليل الرواف إلى مكتبنا بالإشراف على طبعه ونشره، فكان لنا بذلك من شرف الموضوع، وشرف المؤلف، وشرف صاحب الفكرة ما نسجله في أول صفحة من صفحات هذه الرسالة». مكتب النشر العربي بدمشق. ولعلنا نلقي نظرة سريعة على هذا الموضوع أو على الأقل إطلالة قصيرة على بعض جوانبه لعل من لم يسبق له أن اطلع عليه أن يعود له، ففيه إضاءات ولمحات موجزة تغني عن مطولات. فبعد أن استعرض – طه حسين- وضع الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأنها متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها، فكانت أطرافها من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين، ونشأ عن هذا الاتصال أن نظمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينية، أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث.. وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس. وقال: تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها.. فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة العرب، إما خوفاً من البدو، وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري. أما قلب الجزيرة وداخليتها فلم يتغير كذلك إلا قليلاً، بادية مستقلة استقلالاً تاماً تظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر، رغبة أو رهبة أو خوفاً وطمعاً. فالدين الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام، واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن، والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة. يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدث عنها في مقال واحد كأنه يتحدث عن شعب واحد.. ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب يحتاج إلى أن تحل مسألة عزلته قبل الشروع فيه، ذلك أن بلاد العرب هي مهد الأدب القديم، وفي شماليها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي، وفي الحجاز ظهر القرآن، ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب ودين إلى بلاد الشرق الأدنى، فغمرت أكثره وظلت موطناً للأدب الخالص طوال القرن الأول للهجرة، فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعاً من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد. وتساءل عن سبب العزلة مع أن هذه البلاد كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي.. وقال إن الدولة الأموية عربية خالصة.. وليس غريباً أن تكون الجزيرة العربية أشد بلاد الإسلام امتيازاً في ذلك الوقت.. كانت موطن الرؤوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة في إقامة الدولة، كانت حاكمة وكان غيرها من البلاد محكوماً، فلما قامت الدولة العباسية تغير كل شيء لأن هذه الدولة قامت على أكتاف الفرس وتدبيرهم، فقامت خراسان مقام جزيرة العرب وأصبحت هي التي تمد الدولة بالرؤوس المفكرة، وبالوزراء ورجال القصر وبالأيدي العاملة بالجيش وعمال الدواوين، وقد أقصي العرب شيئاً فشيئاً عن الجيش والدواوين.. وأن جزيرة العرب لم تكن من الغنى والثروة بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها وتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية، ومن الحضارة التي جلبت إليها أيام الأمويين.. لهذا كله انسحبت الجزيرة من الحياة الإسلامية العامة، فأما باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلاً قليلاً، وأما حواضرها فاحتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم. ولولا البلاد المقدسة في الجزيرة العربية، وأن المسلمين يحجون إلى مكة والمدينة في كل عام، وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطى، لأهملت هذه البلاد إهمالاً تاماً ولنسيها تاريخ المسلمين. ومن هذه العزلة فسدت ألفاظه فكثرت فيها العجمة، وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتاب في التدقيق، وفسدت أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض. فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية. بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة، ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى ولم تكن تدوّن في البادية وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواة والحفاظ وتنتشر في الصحراء كما تنتشر الرمال بتأثر الرياح. وقال: أما نجد فإن حياتها الأدبية قد ضاعت ضياعاً تاماً إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريباً. وفي الجزيرة العربية أدبان مختلفان: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها: في الشام ومصر وإفريقيا الشمالية. أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة. وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير.. على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فالتفت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثاراً خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقتها بالأمم الأوربية أيضاً. هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبدالوهاب، شيخ من شيوخ نجد.. ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جداً أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب. وقد كان هذا الأثر عظيماً خطيراً من نواح مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلاً أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان. وهو قد لفت المسلمين جميعاً وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب. وقال في آخر بحثه: «.. وقد بدأت بشائر الحياة الجديدة ظاهرة جلية. ففي مكة صحيفة تنطق بلسان الحكومة وتنشر أدباً وسياسة على نحو ما كانت تفعل الجريدة الرسمية أول الأمر، كانت القبلة أيام ملك الهاشميين، وهي الآن تسمى أم القرى. وكانت في مكة مجلة الإصلاح، وفي مكة مطابع، وفي مكة أيضاً وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية على نحو المدارس المصرية..» وقال: «.. وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا، بل يريدون أن يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندن، وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد، ولكنهم لم يوفقوا بعد إلى أن يكونوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما. واختتم الموضوع بقوله: «وجملة القول إن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: أحدهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية، وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة. وقد يقال إن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى ثم أغلقت من دونها فما الذي يمنع أن تفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب عن ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات والبخار والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلات، وأنى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب، وسيكون هذا المستقبل قريباً في بعض البلاد وبعيداً في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال».. طه حسين.