أ.د. صالح الشحري :في كتاب «تحت الأنقاض» لنافع الياسي..يوميات طبيب إماراتي في غزة. قصص المآسي الكبرى التي تتحول إلى أعمال أدبية خالدة.
يهدي الدكتور نافع الياسي كتابه إلى كل من آمن بإنسانية الإنسان وسعى لنشر النور في أحلك الظروف. رغب الدكتور نافع في التطوع بالعمل لدى المستشفى الميداني الذي أقامته دولة الإمارات في رفح، المستشفى الميداني يتعامل مع الحالات الطارئة حتى تستعيد استقرارها، ثم ترسل إلى مستشفيات أخرى أو تخرج إلى بيوتها لمتابعة العلاج. في الثامن من يناير ٢٠٢٤ وجد نافع نفسه خلف مقود سيارة مصفحة، تجلس بجانبه ممرضة من جنوب أفريقيا، تعمل في الإمارات، تطوعت مثله للعمل في غزة، الإنسان أخو الإنسان، كان لا بد للشاحنة من سائق، السائق المفترض لم يُعط تصريحا لدخول غزة، فانتًدب الدكتور للقيام بدوره، ها هي القافلة تنتظر الإذن بالتحرك، والأفق يملؤه الرماد، والأرض من حولهم تحتلها أنقاض المباني، وهنا وهناك أرتال من الناس الذين فقدوا المأوى، حملتهم الهموم والفقد إلى هذا المكان، ليسوا متأكدين أنهم نجوا، تركوا تحت الأنقاض أحبابا، ماتوا أو عاشوا ساعاتِ ينتظرون موتهم، لم يصل إليهم أحد، ينظرون بعيون مثقلة بالهموم، نظراتهم تقول لمن في القافلة: أين تذهبون؟ امامكم الموت والدمار، هل فقدتم صوابكم؟ الدكتور نافع استشاري أطفال متخصص في أمراض الجهاز الهضمي والتغذية. ماذا جاء يفعل في مستشفى يقوم عمله على الجراحين؟ وخاصة جراحي العظام الذين يقضون أربعاً وعشرين ساعة متصلة أو أكثر في غرف العمليات، لكن الجرحى معظمهم أطفال، والجراحة وحدها لا تكفي لإنقاذهم، الضرورة قصوى للعناية بهم بعد العملية، الأدوية والتغذية لا بد منها، وإلا كانت الجراحة مجرد تمرين للطبيب. سؤال مريم ابنته يلح عليه: لماذا يموت الأطفال في غزة يا بابا؟ لماذا لا تذهب لمساعدتهم، ألست طبيب أطفال؟ استولى عليه السؤال: كيف أترك أطباء غزة وحدهم يتعاملون مع كارثة انسانية لا يكفيها عدد الأطباء ولا المستشفيات القائمة، المستشفيات التي طالها القصف المتعمد. ليس الدكتور من هواة التقاط الصور مع الضحايا، واستدعاء الشعبية من خلال الكتابة عن الضحايا واصطناع البطولات الوهمية، يتذكر حين حطت طائرة مليئة بالمرضى، قفز أحدهم، حمل مريضا بحنو بالغ، التقط الصور، ثم ترك الطفل الجريح لإحدى الممرضات، ولم يره أحد بعد ذلك، هو ليس من هذا النوع. لقد أقسم عندما تخرج من كلية الطب على مساعدة الإنسان تحت كل الظروف، وها هو يبر بقسمه في مهمة محفوفة بالمخاطر، قد تصيبه قذيفة بغير قصد أو بقصد، إن كان محظوظا تصيبه عاهة مستديمة، وإن فارقه الحظ سيتحول إلى أشلاء، وقد يتحول من طبيب متطوع إلى شهيد متطوع. قناة CNN نشرت تقريرا استغرق دقائق عن المستشفى الإماراتي، تقرير يحرق الجفون ويطلق الآهات ولكنه يحرك دوافع البطولة في نفوسٍ ترى ماذا يفعل الأطباء؟ هؤلاء الذين تركوا طراوة العيش ليتعاملوا مع كارثة تتوالد مآسيها. في الطريق من العريش إلى رفح تتكدس آلاف الشاحنات تحمل المساعدات، بعضها قضى أياما بلياليها ينتظر التصريح بالدخول إلى رفح، بعضها فسدت حمولتها، فعادت أدراجها، هذه الشاحنات والآلاف غيرها لن تكفي مليونين فيهم عشرات آلاف القتلى والجرحى، في حال كحال غزة يصبح ماء الشرب مطلبا عسيرا. •دكتور انظر إلى المبنى المهدم عن يمينك. كان المبنى قد سُوي بالأرض، لم يبق منه إلا عمود، العبارة المكتوبة على العمود نُقشت على قلب نافع. “حسام تحت الأنقاض”. المستشفى عبارة عن مجموعة من الخيام والحاويات، على جانب خيمة المنطقة الحمراء التي تحمل إليها سيارات الإسعاف الحالات الطارئة، أغلبها مآسٍ تدمي القلوب، ثم خيمة المنطقة الصفراء لحالات الطوارئ العادية، ثم خيمة المنطقة الخضراء للحالات غير المستعجلة، يضم المستشفى ثلاث غرف عمليات مجهزة بالكامل، وخيمتين للعناية المركزة، واثنتي عشرة خيمة للمرضى المقيمين، فاضت بمن فيها، اضطرت الإدارة لإقامة خيام أخرى. فرز المرضى مهم، قد يستغل أحدهم مرضه لإيجاد مأوى آمن في المستشفى، كما أن المستشفى لا يستقبل المرضى الذين لا يتمكن من علاجهم كإصابات الدماغ، وحالات الولادة. استقبلهم الدكتور عبدالله النقبي، مدير المستشفى، يقوم بمهمة عظيمة. قال: لن يصعب عليكم جبر كسر أو معالجة مريض، لكن حين تستمعون إلى الحكاية التي سببت ذلك ستنكسر قلوبكم، أشار إلى طفلة في العنبر السابع: هذه سارة، ثمانية أعوام شاهدت اشلاء والديها وإخوتها السبعة وهم يُستخرجون من تحت الأنقاض، لا زالت في حالة صدمة نفسية، مثلها كثيرون فقدوا النطق، أو فقدوا الذاكرة. إن كنتم تريدون أن تعملوا بحيوية لا تدعوا هذه المسألة تستغرقكم، ابكوا وتألموا، ولكن في مكان آخر، الناس ينتظرون منكم خدمة طبية تليق بكم وبدولتكم. الدكتور باسم للتو أنهى جراحة معقدة، طفلة اسمها لورينا، تهتكت أمعاؤها، تم استئصال جزء من الأمعاء وخياطة ثقوب القولون، واستئصال الطحال الذي تهتك كليا، نجت من موت محقق، قال الدكتور نافع: إن الطفلة بحاجة إلى تغذية وريدية كليا، ولا يكفي فقط السوائل الوريدية، المستشفى ليس مهيئا لتقديم ذلك، لعلنا نقنع الإدارة بجلب هذا النوع من التغذية. وإلا فسيطول وقت الشفاء. “ اليوم الأول للعمل، لم اذهب كطبيب أطفال فقط، أصبحت شاهد عيان أروي القصص عن أطفال لا ذنب لهم إلا أنهم ينتمون إلى أرض كان ولا يزال وسيبقى اسمها فلسطين”. لورينا ذات الخمسة أعوام كانت ترافق والدها الذي خرج يحتطب ما يوقد به نارا للطبخ، انفجار هائل، تطايرت الجثث، جاءت سيارة حمل صاحبها مجموعة من الأطفال الجرحى، لا يعرفهم، توجه إلى مستشفى أبي يوسف النجار، طالبة الطب رنا استقبلتهم، كان عليها أن تفرزهم….هذا ميئوس منه…و هذا سيعيش…الثالثة كانت تنزف، تدلت أمعاؤها، تحتاج إلى جراحة عاجلة ، كل الجراحين في غرف العمليات، ركبت الطبيبة محلولا إلى وريد الطفلة، وأصدرت نداء إلى كل المستشفيات، استجاب المستشفى الإماراتي، وهكذا أصبحت في غرفة العمليات. “سنؤجل اليوم بعض العمليات غير العاجلة، حاولوا إخراج أكبر عدد من المرضى الذين يمكن متابعة علاجهم بالخارج، نحتاج أسرة للمرضى القادمين، مضطر لإعطاء الجراحين وأطباء التخدير بعض الوقت للراحة، قبل ان يستريحوا جيء بعجوز مصابة، على الأغلب سيتم استئصال ساقها، فقدت بيتها وابنتيها في الغارة، ذنبها وذنب عائلتها أنها تسكن بيتا جاره السابع يعمل سائقا عند أحد قادة حماس”. كانت الجمل أعلاه نموذجا للتقرير الصباحي الذي يقدمه مدير المستشفى ليعرف العاملون ما حصل وما يجب أن يعملوا. جاء المدير إلى استراحة الأطباء: •هذه حالة طفل أصيب بتهتك في الطحال والقولون أجريت له عملية لاستئصال الطحال واستئصال أجزاء من القولون في المستشفى الأوروبي، وقد عُملت له عملية فغر للقولون، كذلك تم استئصال مقلة عينه اليسرى التي تدلت للخارج بعد الانفجار. رد استشاري العناية المركزة: حالته سيئة، عندي سرير واحد يمكن أن نضعه فيه. •أخاف أن ينتكس. إذا كان قدره أن يموت هنا فلندعه يموت في كرامة، وبغير ألم. هذه حالةٌ أخرى تستدعي الحصول على محلول التغذية الكاملة، لكن المدير يقول إن العلاج بها لا يناسب مستشفى ميداني، لا نستطيع إبقاء المرضى أشهراً لأجل ذلك. تناول المدير هاتفه وأبلغ المستشفى الأوروبي بقبول الحالة. تحسنت حالة الطفل رغم أنه احتاج عملية جراحية ثانية لإخراج الصديد من البطن، أصبح من المحظوظين لأن موافقة جاءت لإتمام علاجه في مصر. المحظوظون قد يأتيهم تصريح بالعلاج في مصر أو تركيا أو قطر وكذلك الإمارات، الدكتور نافع يحاول إرسال الطفلة لورينا إلى الإمارات. وبينما كان الدكتور نافع خارجا من عنبر إلى آخر سمع صوت هتافات وضجة وزغاريد.. ماذا؟ هل فاز المنتخب الفلسطيني على القطري في كرة القدم، أجاب أحد الواقفين: أنظر دكتور، الصواريخ تطلق من رفح على الصهاينة! زهراء طفلة السبع سنوات علقت قدماها تحت أنقاض بيتهم الذي تم نسفه تماما حيث مات أبواها، ترعاها خالتها، فقدت خالتها ابنتها قبل سنة في حادث سيارة، وكأنما تبادلت الأمهات البنات. الأموات معا والأحياء معا. يتم إجراء عملية تنظيف للجرح كل اسبوع، تحتاج إلى عملية تجميل لقدميها، تأخذ عقار التازوسين، عقار مضاد للحيوية قوي التأثير، في غزة لا يعمل مع كل الحالات، نسبة التلوث بالبكتيريا والفيروسات عالية. تحليل الدم يظهر انخفاض نسبة الهيمجلوبين إلى أقل من خمسة، تحتاج إلى نقل دم عاجل، يتوسل الطبيب إلى فني المختبر، دمها من فصيلة باء سالب، ليس لدينا هذه الفصيلة، ألا يمكن إعطاؤها فصيلة واو سالب، نعم و لكن ليس عندنا إلا ثلاث وحدات وعندنا عمليات جراحة عظام عديدة اليوم وستحتاج دما، الناس لا يبخلون بالتبرع بالدم، تلك طريقتهم في مساعدة بعضهم، ذكر الطبيب الأمر لخالة زهراء، طلبت أن يكتب رسالة على هاتفها يطلب الدم الذي تحتاجه، ستوصل الرسالة إلى أحد اقربائها، ربما نحتاج يومين أو ثلاثة حتى نحصل على الدم، لكن الأمر لم يستغرق إلا ساعات، وصل الدم قبل عصر اليوم، أهل غزة لهم نفوذ خاص وعزيمة قوية، ولديهم شبكة تواصل معقدة تمد يد العون في لحظات. تحدث أشياء سيئة، هذا مراهق أصابه رصاص حارس أمن فلسطيني، كان يحاول مع مجموعة كبيرة من الناس تسلق إحدى شاحنات المساعدات علهم يأخذون ما يسد رمقهم، لم يفلح حارس الأمن في صدهم إلا بإطلاق الرصاص، رصاصة غير قاتلة، وهذا سائق لإحدى الشاحنات أصيب بجروح نتيجة اعتداء، المساعدات لا تحتوي سجائر نشأت سوق سوداء للسجائر، كان هذا السائق ممن يتكسبون بهذه الوسيلة، مرابحها عالية، وأخيرا اعتدى عليه بعض الزبائن ممن لم يعودوا يملكون الثمن. عبدالله الذي كان ضحية قصف على سيارة جمعته مع أربعة من أقربائه، مات ثلاثةٌ على الفور، عبدالله وعبود تظاهرا بالموت حين جاءت المجندة الاسرائيلية، للتأكد من موتهم ، ثلاثة كان موتهم معلنا، ضربت بحذائها رأسي عبدالله وعبود، تأكدت من موتهما، تركتهما، كانت أمعاء عبدالله متدلية، عثر الناس عليه أوصلوه إلى مستشفى الإمارات، و بين الوعي واللاوعي كان مرعوبا، بعض وسائل التواصل كانت تقول إن هؤلاء الأطباء يقومون بمهمة تجسسية، بعد أن تماثل للشفاء أهدى عبدالله طبيبه لوحة من رسومه ممتنا. انتهت المهمة، سوف يأتي أطباء آخرون، الدكتور نافع استطاع أن يدبر للطفلة لورينا الانتقال إلى مستشفى بالإمارات، أجري لها أكثر من تدخل جراحي، توفر لها محلول التغذية الكلية، تماثلت للشفاء، تركت للطبيب ذكرى طيبة وترك الطبيب في عنقها حياة عبرت من الموت. قصص المآسي الكبرى تتحول إلى أعمال أدبية خالدة، وهذا العمل يستحق الخلود.