فيلم محامي الشيطان ..

هل الشر أصيل في الإنسان؟.

تظهر آثار العقل الذي منحه الله للإنسان في قدرته على الاختيار، ومن هنا فإن الفضيلة تعتمد على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة، بمعنى أن الإرادة الحرة بإمكانها أن تقود أما إلى الجنة أو إلى النار، الإنسان مخلوق مشتت وخليط عجيب من الروحانية والحيوانية مجبول على الميل خارج الخط المرسوم له وهنا تكمن روعة إنسانيته في كونه يملك القرار على السير في الطريق أو الانحراف عنه ثم العودة إليه بعد ذلك، وجد الإنسان لنفسه الكثير من المبررات التي يغسل بها شعوره بالذنب، لكن أعظم الحجج وأكثرها تأثيراً هو الشيطان .. ومنذ اللحظات الأولى التي صنف فيه الإنسان الأخلاقيات وقسمها إلى خير وشر وخطيئة وصلاح عرف أنه بحاجة ماسة لوجود الشيطان حتى لا يتبادر إلى ذهنه للحظة أنه مخلوق شرير بأصله وطبيعته. هذه الفكرة نوقشت في كل الثقافات والأديان وتمت صياغتها كقصائد ومسرحيات أما المخرج العظيم “تايلور هاكفورد” فقد حولها إلى فيلم لا يُنسى تم عرضه عام 1997 تحت مسمى “محامي الشيطان” المأخوذ عن رواية للكاتب “أندرو نيدرمان” والتي تم اقتباس فكرتها الأساسية من قصيدة “الفردوس المفقود للشاعر جون ميلتون” وهو الاسم الذي تم تسمية بطل الفيلم به. الصراع ينشأ نتيجة للصدام بين إنسان صالح وعالم ظالم وليس نتيجة لأخطاء وذنوب هذا الإنسان وهذه وجهة نظر ميلتون التي تم بناء فكرة الفيلم بالكامل عليها .. وفكرة الفيلم حساسة وشائكة وبالرغم من ذلك فقد استطاع المخرج أن يترك لنا عمل من الأعمال السينمائية المميزة في فترة التسعينيات، وتبدأ أحداث الفيلم على رتم هادئ وبسيط ومليء بالطاقة والاندفاع لتتصاعد وتيرة الأحداث في الفيلم حتى تصل إلى الذروة بطريقة صادمة ومفزعة في النهاية، ويبدأ الفيلم بمشهد في المحكمة يقف فيه المحامي كيفن لوماكس للدفاع عن موكله المعلم المتهم بالتحرش بتلميذته المراهقة وللحظة يجد المحامي نفسه وقد ترافع عن الطرف الخاطئ في القضية، معلم متحرش بطفلة ومن المؤكد أن ذلك حدث وسيحدث مرارا في حال خروجه بريئاً من القضية،يجد المحامي العبقري نفسه بين خيارين أحدهما أن يكون إنسانياً ومنصفاً ويتنحى عن القضية بعد أن تبين له أن موكله متورط في واحدة من أبشع الجرائم، أو أن يستمر في سلسلة انتصاراته المتواصلة مهما كان الثمن ولتذهب الإنسانية إلى الجحيم مادام المقابل هو بقاؤه منتصراً وبسمعه ممتازة عنه كمحامي لا يمكن أن يهزم مهما كانت القضية، وقد كان خياره أن يفوز مهما كان الثمن، وبقراره هذا يبدأ كيفن بالتورط في عالم مليء بالقذارة ويغوص في عمليات تطهير لأبشع المجرمين بعد موافقته للانضمام لمكتب قانوني كبير والسفر إلى نيويورك هو وزوجته ليبدأ حياة الثراء والمال بعد توقيع العقد مع جون ميلتون صاحب أكبر مكتب محاماة، وبدأ كيفن يعلو وتعميه لذة الفوز في كل مرة عن كل شيء، عن القيم والأخلاقيات وعن الحب، كل ما كان يعنيه هو أن لا يهزم تولى الدفاع عن المشعوذين وعن رجل قتل عائلته بالكامل بدوافع جنسية قذرة، وهذا لم يكن عائقاً أمام الحصول على براءته، الوصول للقمة هو ما كان يشغل ذهن كيفن فقط ، بدأت زوجته ماري آن تتخبط بعد أن أحاطها ميلتون برفيقات من أعوانه و بدأت تشك في كل شيء وتنطفئ شيئاً فشيئاً أمام عيني الزوج الذي لم يكن منه في آخر اللحظات سوى البكاء أمام جسدها النازف بعد أن انتحرت، ماري آن كانت صاحبة إرادة حرة فهمت اللعبة منذ البداية وأدركت الخطر لكن كيفن لم يكن لينصت إليها، طغى غروره وهوسه بالوصول للقمة على كل شيء ، وفي اللحظة التي وجد نفسه مغطى بدمائها أدرك أنه وقع عقده مع الشيطان وأن الأمر برمته تم التخطيط له مسبقاً، وتأتي المواجهة في المشهد الأخير والعظيم ما بين الانسان ورغباته وطموحاته ونوازعه “كيفن” والشيطان “ميلتون” الذي لم يكن يفعل أي شيء سوى أن يسهل الطريق الذي قام الأول باختياره مسبقاً لا أكثر.. هذا المشهد من أجرأ وأعظم مشاهد البتشينو على الاطلاق يستخدم فيه البتشينو صوته المميز وملامح وجهه الجريئة ليتجلى الشيطان ويضع كل خططه ونواياه أمام الإنسان، ويخبره أن الشر أصيل فيك ولم أكن إلا نصيراً لك في هذا العالم الذي وجدت فيه محباً لكل الشهوات ومحرم عليك الاقتراب منها في آن، واعترف ميلتون لكيفن أنه ابنه ولذلك لم يكن يخسر أي قضية لأنه كان يعده مسبقاً ليكون خليفته ومساعده الذي لا يقهر وبأن هذا العصر هو عصر الشيطان وزمنه، وبأنه يفضل أن يحكم في الجحيم، على أن يخدم في الجنة، لكن يبقى لدى البشري رغم كل شروره ونوازعه إرادته الحرة والتي تخوله في لحظة ما أن يقول لا، وهذا ما فعله كيفن في آخر المطاف، و الحكاية لن تنتهي أبداً وستستمر إلى أن ينتهي هذا العالم . في الفيلم الكثير من التفاصيل التي لا يسعني سردها لأترك المجال لمشاهدتها ويكفي أن أقول عن هذا الفيلم أنه واحد من التحف السينمائية التي ستترك أثرها فيك ولن تعود بعد مشاهدتها كما كنت قبل ذلك، الفيلم من بطولة: “آل باتشينو” بدور جون ميلتون/الشيطان و “كيانو ريفز” بدور كيفين لوماكس/ و “تشارليز ثيرون” بدور ماري آن لوكامس/ و “جيفري جونز” بدور إدي بارزون، ومن إخراج “تايلور هاكفورد” حكاية الإنسان مع الإغواء الشيطاني قديمة ولن تنتهي أبداً والتساؤل يبقى قائماً هل الأصل في الإنسان أن يكون شريراً أم العكس ؟