فيلم جسور مقاطعة ماديسون..

هناك أشياء تحدث لمرة واحدة في العمر.

لطالما كانت الأماكن واحدةً من أهم أبطال القصة بل وأكثرها خلوداً، فأماكن المواعيد الجميلة تبقى حاضرة بين شخصين حتى حين تنتهي الحكاية ويمر الزمن، ستكون الأماكن شاهدة على ذلك الحدث الذي قد يحدث لمرة واحدة في العمر، وهي شريك فعلي وبطل من أبطال الحكاية وكل ما قد يتبقى منها بعد أن يفتت الزمن كل شيء. وهكذا بقي «جسر ماديسون» شاهداً على الحكاية التي عاشتها ربة منزل غير بسيطة ذات صيف، وأصبح الجسر هو الملاذ الأخير لجسدي العاشقين بعد أن انتهت رحلة الحياة القصيرة بهما، أتحدث عن واحد من أجمل أفلام التسعينات الذي كان من بطولة «ميريل ستريب» ومن إخراج وإنتاج وبطولة «كلينت إيستوود» عام1995. يبدأ الفيلم بمشهد فتح وصية الأم من قبل أبنائها الذين يتفاجؤون حين يجدون والدتهم تطلب إحراق جثمانها ونثر الرماد المتبقي تحت جسر مقاطعة ماديسون، ولم يجد الأبناء مبرراً منطقياً لتصرف والدتهم، حتى قاموا بفتح صندوق يحمل مذكراتها ليجدوا التفاصيل حول الحكاية المتمردة الوحيدة التي خاضتها والدتهم دون أن يضر ذلك بهم أو يشعروا به طوال حياتهم. قد تشعر للحظة أن حياتك أصبحت بكل أحداثها محسومة لا تنتظر أو تتوقع شيئا جديداً، تشعر أنك أصبحت جزءاً من حياة مرسومة بكل تفاصيلها مسبقاً وقد تأقلمت مع هذا جيداً ووهبت نفسك لهذه الحياة، ونسيت حتى أن تفكر للحظة إن كنت راض عنها كل الرضا أم لا! هكذا كانت «فرانشيسكا» تعيش حياتها في مزرعة تمتلكها عائلة زوجها في قرية بعيدة عدد سكانها محدود ويعرفون بعضهم البعض، تركت التعليم الذي كانت تحب ممارسته من أجل أن تبقى حاضرة في المنزل بجوار الأبناء والزوج وتمارس مهامها اليومية المرهقة في الفلاحة والمنزل حتى إذا هبط الليل لم يعد يشغل بالها شيء سوى أن تنام جيداً لتتم مهام اليوم الآخر، نسيت فرانشيسكا نفسها تماماً أصبحت جزءاً من المنزل، والعائلة هي كل ما تعرفه عن الحياة بالرغم من أن الأطفال يكبرون والحياة ستتخطفهم بعيداً عما قريب إلا أنها لا تملك في مخيلتها شكل لحياة أخرى بعيداً عن هذا المنزل الذي جاءت إليه من إيطاليا منذ أعوام ولم تخرج منه قط. حتى جاء النهار الذي اتفق فيه الأبناء مع والدهم على مغادرة البلدة لأربعة أيام، وكانت هذه الأيام القلائل فرصة لخلق مساحة خاصة بها بعيداً عن الالتزامات اليومية، فقررت أن تستمتع بالوقت دون واجبات وأعباء، أن تدير المذياع على المحطة التي تحب دون أن يغير مؤشر الراديو أحد، أن تستشعر حريتها في اختيار نوع الطعام الذي ستطهوه وشكل النهار الذي ستقضيه متحررة من أي قيد، و في ذلك النهار الذي قررت أن يكون فوضوياً وحراً وبسيطاً، يظهر على سور حديقتها رجل تائه يبحث عن موقع ليلتقط فيه صوراً لجسور مقاطعة ماديسون لصالح مجلة شهيرة، فتقرر الذهاب معه إلى هناك لتدله على المكان، لكنها لم تكن تعرف أنها لن تعود كما كانت قبل أن تذهب، وبأنها موعودة بالقدر الذي سيغير فيها إلى الأبد، وخلال الرحلة تتبادل الحديث مع الغريب الذي تصطدم بطريقة تفكيره في الحياة وعبثيته وكونه لا يهتم بالاستقرار أو الانتماء إلى عائلة أو منزل، هكذا دون رابط يربطه بشيء على الإطلاق وبينما هو يجد في ذلك منتهى الأمان فهي قد وجدته مخيفاً جداً، كان من الصعب عليها استيعاب أن يكون هناك شخص من السهل عليه ترك كل شيء خلفة وأن يعيش حراً يقفز على خارطة العالم من مكان إلى آخر دون قيد، وجدت فرانشيسكا ذلك مفزعاً وغريباً، هي التي لم تكن كأي ربة منزل عادية بسيطة بل كانت لديها أحلامها وآمالها لكنها كبتت كل ذلك من أجل المصير العائلي، وفي لحظة خارج حدود الزمن يجد روبرت في هذه المرأة كل ما كان يبحث عنه طوال حياته، وعرفت معه كيف تعبر عن نفسها وتتحدث دون أن يقاطعها شيء وترقص دون أن تتوجس من شيء، ونسي الحبيبان أن هذا مؤقت! ولابد أن تأتي اللحظة التي سيعود فيها الأبناء إلى منزلهم ويغادر هذا الغريب إلى حيث أتى، يتسلل إليها الخوف والمسؤولية ليفسدا المشهد الجميل لعاشقين يفترشان العشب تحت جسر ماديسون وكأن العمر كله لم يكن سوى هذه الأيام الثمينة، وتأتي لحظة الرحيل التي كان عليها أن تختار فيها ما بين الرحيل مع عابر السبيل الذي أحبته وتترك خلفها المنزل الدافئ والزوج الطيب وأبناءه، أو أن تبقى في قريتها الصغيرة لكن القصة لن تموت داخلها أبدا،ً وسيبقى وجه الحبيب كما هو آخر مرة، كانت تعرف أنها لو اختارت الرحيل مع رجل الفوضى لن تلبث الأمور زمناً حتى تتغير وسيأكل الندم والحنين قلبها دائماً وستتردد الشائعات حولها في البلدة مما سيؤذي زوجها وأطفالها حتماً، بل وسيبقى منزلها الدافئ وعائلتها ماثلين أمام عينيها أبداً أينما كانت، فاختارت أن تختصر الحكاية وتجمدها كما هي دون أن تتحرك اللحظة العظيمة من مكانها حتى لو كان شيئاً كهذا الحب نادراً ويحدث مرة واحدة في العمر، لكنها تعرف أنها حين تغامر بالذهاب معه ستلوم نفسها وتلومه لبقية حياتها، لذلك اختارت أن تحبه كما أحبته خلال هذه الأيام وإلى الأبد، كان من الصعب عليها أن تمحو حياة لتبدأ حياة جديدة، فحين تتزوج المرأة وتنجب فإن حياتها تبدأ لكنها تتوقف من جهة أخرى لتستمر حياة أبنائها بالنمو، فأبقت على الشموع متقدة بعيداً عن الجميع داخل روحها وتحمل ذاكرة هذا الحب في أعماقها، وقد جاء وحيداً لكنه عاد محملاً بوجه لا يغيب عنها مهما كانت المسافات، احترم روبرت قرارها ورحل بصمت .. واستمرت هي كما كانت دوماً الأم والزوجة وتقبض على السر الذي لم تفصح عنه إلا لصديقة مقربة منها بعد أعوام، وحين توفي روبرت أرسل إليها رفاته ليُنثر تحت الجسر كما قررت هي أن تفعل ذات الشيء لاحقاً. الفيلم أمريكي ومن إخراج وإنتاج وبطولة كلينت إيستوود عام 1995 عن رواية الكاتب الأمريكي روبرت جيمس والرواية تحمل نفس العنوان، البطولة النسائية لميريل ستريب والتي رُشحت لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم، الموسيقى الآسرة للفيلم لليني نيهاوس. بعض الأفلام تشبه القصائد لا يمكنك حين تكتب عنها وتشاهدها إلا أن تتأثر وتتغلغل في روحك وتترك أثرها عليك وستجد نفسك تكرر مشاهدتها أكثر من مرة، وبالرغم من كون الطابع العام للفيلم رومانسي إلا أن هناك ما هو أبعد وأعمق من مجرد حكاية حب عابرة.