أدب الطفل في ظلّ تطوّر الذكاء الجمعي.

أشعر دائمًا أنني كنتُ محظوظًا, لأنني من الجيل الذي تتلمذ على قصص, رائد أدب الطفل كامل الكيلاني, وما زلتُ أتذكّر تلك الدهشة التي كانت ترافقني, عندما كنتُ في الابتدائية أقرأ له بشغف: حذاء الطنبوري, الملك لير, جلفر في بلاد الأقزام, جلفر في بلاد العمالقة, تاجر البندقية, حي بن يقظان, روبنسن كروزو. تشدّني لتلك القصص أغلفتها الملوّنة, ورسوماتها الكرتونية, إضافة إلى الجُزُر والعوالم العجيبة التي كانت تأخذني إليها. لم أكن أعرف يومها من هو كامل الكيلاني, ذلك الرائد الكبير الذي كتب للأطفال أكثر من 51 قصّة, دون أن يظهر في أي منها بمظهر الخطيب الواعظ أو المُرَبِّي, رغم حرصه في نصوصه على حسن الخلق, والنبل والسلوك السّوي, ناهيك عن تقديمه لسلسلة “ من حياة الرسول” صلى الله عليه وسلم للأطفال. نعم يتردّد كثيرًا هذه الأيام, الحديث عن أدب الطفل, لكن ليس هذا ما ذكّرَني الآن بأدب الطفل, وقصص كامل الكيلاني, وإنما هو صديقي الذي اتصل بي مُفَزّعًا, ليخبرني عن أسئلةٍ وأفكارٍ خطيرة, بات يطرحها عليه طفله, طالب الصف الأول الابتدائي, ذات الطفل الذي دعاه مرّة ليتحدّث معي, كان ذلك قبل دخوله الروضة, فوجدته لا يتحدّث إلا الفصحى. يومها حمدتُ لأفلام الكرتون التزامها الفصحى, وقلتُ هذا هو أدب الطفل الحقيقي, لو لم يكن من حسنات التلفزيون إلا هذه لكفى. غير أنّ هذا الطفل بعد سنة أو سنتين, غادر التلفزيون إلى ( الآيباد) ومختلف الأجهزة والوسائط الأخرى, وبدأ يلعب ( لايف) مع لاعبين آخرين من خلف الحدود. وكلكم بطبيعة الحال تعرفون أو سمعتم عن هذه الألعاب, وما يصاحبها من محادثات وصداقات. المفاجأة أنّ صديقي اتصل بي هذه المرّة يستنجد, فطفل الأول ابتدائي, أصبح يسأله في السياسية, ويردّد مقولاتٍ وأفكارًا, لا نسمعها إلا من أولئك المغرضين والحاقدين علينا وعلى بلادنا. يقول لا أدري من غرس في ذهنه هذه الأفكار الخبيثة, وهو لا يلعب إلا مع أطفال في مثل سنه. ولأنني لا أعرف شيئًا عن هذه الألعاب, أول ما خطر ببالي أدب الطفل, فقلتُ لصديقي: أسرع بمعالجة أمره لكن بحكمة.. لقد أصبحنا وسط العاصفة يا صديقي, وسط ثورة معلوماتية وذكاء اصطناعي واقتصاديات معرفة وعولمة, وعلينا التعايش معها, بل والاستفادة منها, واستثمارها إلى أقصى حدود الممكن, لكن مع اليقظة الدائمة, لكلّ ما يدور في هذا العالم من حولنا, وداخل بيوتنا, وأن نجعل أطفالنا في مقدمة اهتماماتنا. ألا تسمع ما يتردّد هذه الأيام ـ وبكثرة ـ عن أدب الطفل؟ إنّ طفلَ اليوم أيّها السيدات والسادة, قد تضاعف ذكاؤه مرات عديدة, وفوق ما تتخيّلون, وبرع في ترويض الأجهزة الذكيّة أكثر منا, ما جعل العالم كله بين يديه, خيره وشرّه في متناول يده. نُخْطِئ كثرًا, إذا كنا نعتقد أننا بموعظة في قصّة ساذجة, أو نصيحة في قصيدة أراجوزيّة نسميها أدب الطفل, سنسترعي انتباهه ونأخذه إلى جانبنا, إلى حيث القيم والعادات والمبادئ التي درجنا عليها. إنّه زمن الثقافة السائلة, ثوابتنا لم تعد صلبة بما يكفي في أذهان الناشئة, ولا قِبَل لها بمواجهة هذا التمييع المتعمّد, من قبل الماكينات العملاقة التي تعمل على توجيه العالم, وأخذه بعيدًا عن جادَّتنا التي نعرف. من أجل ذلك, وبعيدًا عن الوعظ, ينبغي أن يكون أدب الطفل علمًا وفنًا, يكرّس لخيال الأطفال واليافعين. نحتاج إلى أدب طفل مواكب, بمعنى تفاعلي, لا يكفي أن يكون مشاهدًا أو مسموعًا, وأن نأخذه على محمل الجد, وقطعًا لن يكون هذا الأدب بمفرده حصنًا حصينًا لأطفالنا, مالم تتظافر معه كافّة الجهود والإمكانات, ووفق ما يليق بجيل الرؤية. ونحمد الله أنّ ثمة تحولات جديدة, بدأنا نلمسها بوضوح, من خلال برامج وزارة الثقافة لدينا, ومن خلال هيئاتها المعنيّة.