حسين المحروس في « بستان الأحجار الكريمة » ..

سيرة أبناء الطين والنخل والماء .

تتبع الحيوات في أماكن جغرافية مختلفة ومغايرة تماما لجغرافية الإنسان عمل شاق ومربك ومن ضرب الجنون ، ولا يقدر على هذا إلا إنسان مهموم برصد الدهشة وتطويع الحياة الواسعة الفضفاضة المليئة بالأحداث والمتغيرات لتكون في لقطة واحدة ، ثم إعادة خلقها وتكوينها بلغة أدبية صادقة وقادرة على تمثيلها بصفتها الحقيقية وخلقتها الأولى المنتمية إلى الطين..  الروائي العاقل حد الوقار والامتثال أمام القلم..المصور المجنون الراكض خلف المخلوقات التي تنهض قبل الشمس / حسين المحروس ، هذا الرجل عندما يحمل كاميرته ومذكرته ثم يسير إلى وجهات كثيرة وخرائط مختلفة لا يهمه الاكتشاف ثم اعتقال اللحظة فحسب ، بل والاختلاف أيضاً.. الاختلاف الذي يبقي على كل شيء لأي شيء،  لايفسده بحبسه في هذه الآلة الصماء ، بل يصادقه  يقترب منه ويدير معه الحوار والتفاوض حتى يعيد إليه الحياة ويعيده إلى الحياة ، ويكمل أجزاء الحياة به.. في كتابه [بستان الأحجار الكريمة] الضخم موادا واشتغالا واحترافا سار أزمنة كثيرة  متجاوزا الانبهار  متخطيا الشارع ،الضوء، الأريكة، الطاولة ، الكرسي ،الواجهة الزجاجية ،التكييف ، وكل ما في الأيام البيضاء العادية المتشابهة ، سار باتجاه حياة نابضة خضراء حية بل على قيد الدهشة ، ليستقر به الزمن بين وجوه سمراء بقلوب ناصعة البياض تعمل بجسد واحد وهمة واحدة وهدف واحد ومساحة واحدة يقيسون البعد فيها وبينهم بمقدار ما يقضيه الصعود إلى النخلة أو بعملية حلب البقرة أو الهبوط إلى النباتات الصغيرة وسقاياها ، ويقدرون زمنهم الطويل بمقياس آخر لايدور ولا يقيد بالدقائق والثواني ، يقيسونه بالشمس ، بالعرق، بالتجاعيد التي شكلت خارطة تعنيهم هم وحدهم  بأقدامهم العريقة عراقة الأرض ، وبصفحات كفوفهم السمراء المتشققة والصلبة.. حسين المحروس وهب (أولاد أمينة) القداسة التي يستحقها أبناء الطين ونخلهم وماؤهم..أنسن أشياءهم الصغيرة الاستهلاكية الغائبة في أطراف البستان ، أعاد أمزجتهم إلى فتوتها ، ألغى المسافات بينهم وبين الآخر ، بل أعادهم إلى الواجهة التي هي في الحقيقة لهم ومن حقهم.. (بستان الأحجار الكريمة) لا يعدو كونه مشروعا جمع عددا من الأسماء ، ونفذ في فترة موسومة ، بل هو امتداد لعلاقة مستوفية الأركان والشروط ، علاقة بين الأرض الناطقة والأشقاء الأربعة (أولاد أمينة) وبين الكاميرا والحبر والورق ، بين حسين والملامح والصفات والفروقات والأمزجة  والضحكات والمواقف والحكايات.. هذا الكتاب سيرة إنسان ومكان ، بما تعني العراقة والأصالة ، الوجه والأرض ، الشمس والماء والبقاء كثيرا في ذاكرة الأجيال القادمة ، وهذا حين حضر الإنسان ومكانه معا كلاهما ند للآخر أو مكمل له في هذا المشروع  التوثيقي التاريخي الجغرافي الضخم والفارق..  من أجمل الأعمال وأنبلها أن تضع البسطاء بحيواتهم الكثيرة تحت الضوء ، وأمام الكاميرا وعلى مسرح الزمن ، ثم تصنع لهم  سيرا غيرية خالدة ، وتبقيهم في هذه الصورة المتجددة تجدد ابتسامتهم الحقيقية. كثيرة هي مشاريع حسين التي يذهب فيها إلى الإنسان ومكانه  فيعود ومعه الإنسان والمكان والدهشة.