يوم مثير في حياة عباس.

الستارة العجوز الحزينة تزداد حزناً، وفي كل يوم تنطوي على نفسها بمقدار، كأنها تُفصح عن حزنها الأبدي المعلق، مما خلفّ خصاصاَ يتسع بين شقيها المنهكين. خصاصها المتسع من فرط التجافي يزجي شعاع الشمس برفق ليلج في غرفة نومه. اليوم تعامد شعاع الشمس على وجهه، تحاشاه بالتقلب يميناً ويساراً، ولكن ما برح يغمره حيثما تقلب، سجال أحال السرير إلى حومة معركة انتهت أن نهض وجلس على حافة سريره مكتئباً يقلب كفيه بضجر، فالنهوض مبكراً هو سخرية وقحة بسهاده المزمن, وسيدفعه لفخ مواجهة يوم ثقيل لطالما أراد تقليص مدتها بنوم طويل، حسم أمره إذ قام يدلف صوب المرحاض. نضح الماء على وجهه المتعب وكان يتفرس، بين كل نضحة وأخرى، في ملامحه المنقبضة في المرآة. أغلق الصنبور، وخطا خطوة للخلف متعباً من نهوض قسري، واتكأ على حوض المغسلة, رفع رأسه ورنا بوجوم إلى المرآة، أصيب برعشة تتصاعد وتيرتها كلما أقترب أكثر متفحصاً ذاك الذي طرأ على صلعته, التصق بالمرآة, مد يده لرأسه, لمس ذلك الشيء الطارئ, قبض عليه بسبابته وابهامه، إنها شعرة ناتئة ومنحنية بتواضع كأنها شجرة أعياها ثقل ثمارها في وسط أرض جرز . مسدّها بحنان ورقة وهو يغالب استنكاره لهذا الذي يراه وصوت قرين لطيف بداخله يهمس: إنها حقاً لمعجزة! انتفض جسده وارتج عليه, فرنّق في مكانه. اصابته لوثة مشحونة بعواطف منذ عقود مكبوتة. خرج على عجل من المرحاض وخلفه قطرات ماء ترشح من وجهه وساعديه. غمرته لحظة نشوة عبّر عنها بالغناء، أغاني فتوته الماضية وريعان شبابه. أصيب بحيرة عما عليه أن يفعله اولاً: يعد القهوة أم يرتب شقته المهملة أم يخرج من عزلته ويجوب طرقات المدينة. *** جلس في صدر حجرته وهو ما انفك ينظر في مرآته الصغيرة بجواره، يرفعها محاذاة جبهته, ويعطفها لكي تطل على المعجزة, كان يريد أن يطمئن أنها مازالت ماثلة بشموخ وكبرياء في وسط هامته. تجشأ وهو يتلمس بطنه المنتفخ ثم نهض ورفع كوب قهوته تجاه صورته المعلقة في عرض الحائط, صورة أيام الفتوة ثم جرع اخر قطرات فيه. فتح باب الشرفة بعد غياب طويل عنها, وراح ينظفها ويرتب زواياها, ونصب فيها مائدة وكرسي, يريد أن يعيد لها ايامها السعيدة الخالية . مرة أخرى عاد للمرحاض, واقفاً امام المرآة بخيلاء جندي مستجد، قّرب رأسه نحوها وطفق يتأمل في المعجزة المتمايلة في وسط صحراء جمجمته. استحم وخرج من المرحاض متأنقاً ومتعطراً ليبدأ يوماً جديداً. *** دخل الصيدلية منتصب القامة وبتصعير خد, توجه نحو البائع سائلاً إياه: •هل لديك مسحوق او بلسم عناية بالشعر؟ وجم البائع وهو يتطلع إلى رأس محدثه, وهم أن يقول شيئا ولكنه تلجلج فغمغم ثم سأل : هل هناك شيء بعينه تريده ؟ •لا أعرف شيئا بعينه, ولكني اريد نصيحتك ! •حسناً, سأحضر لك ما قد يفيد أمرك . غاب الصيدلي ثم عاد ويداه ممتلئتان بعلب أدوية عديدة . اراها إياه، هز رأسه موافقاً, ولج البائع ركنه خلف آلة المحاسبة ووضع الأدوية في كيس, ناولها إياه بعد أن قبض ثمنها. وخرج مختالاً مترنماً بأغنية قديمة. بعد سير في ممرات السوق، دلف إلى المكتبة وخرج منها محبطاً بعد أن فشل في العثور على كتاب عن عناية الشعر. كان أخر وجهة له بالسوق محل ملابس إذ اشترى قبعة ناعمة قطنية . *** عند دخوله شقته, اتجه صوب المرآة, وانتصب أمامها مسرورًا يعاين المعجزة المنحنية بخجل لا يخلو من كبرياء. وبدأ يعد العدة للاحتفاء بهذا اليوم السعيد, يوم انبعاث المعجزة, وبدأ يرتب المائدة في الشرفة, وضع عليها غطاء قديم مقشب, وشمعة ووردة بلاستيكية بهت لونها من الشمس, حضّر القهوة, وجلس في الشرفة الهادئة ما تبقى من اليوم وهو يفكر في مستقبل معجزته، تمثل له أنها انجبت لها معجزات كثيرة ليعود شعره كسابق عهده في ريعان شبابه حين كان وسيماً قسيماً. قشعريرة من هيجان عاطفي فشلت في إجهاض نعاسه. نهض وتهادى إلى غرفة نومه. جلس على حافة السرير، ولبّخ على رأسه لبخةً من أدويته الزيتية ومسده بلطف بالغ, ثم اعتمر قبعته القطنية الناعمة، قام ومشى صوب النافذة وفتح الستارة على مصراعيها، ثم استلقى على سريره ببطء وحذر شديدين وعيناه تلمعان ببريق اضواء الشارع.