«الاستنزال» و«الجرمه» و«الونين»..

حكايات الجن والطرب.

منذ طفولتي وأنا أرى “الاستنزال” في الأعراس، وهو حسب الشائع بسبب تلبس الجني للإنسان، وهنا نتحدث عن المرأة، وكان هذا الوضع مخيف وأحياناً مرعب لدى كثير من الحضور، فهذه المرأة التي كانت بكامل زينتها ورزانتها فجأة تقفز من مكانها وترقص بعبثية وهياج وأحياناً بصراخ وتمزيق ما تستطيع من ثيابها أو شيلتها “المنيخل”، مع خلع ذهبها الثقيل وزناً وقيمة، والمكون في أحيان كثيرة من رشرش بأنواعه المختلفة أو قلادة ثقيلة كانت تغطي جزءا من نحرها أو كف بخمس أصابع، والخواتم، وتقذف به دون درايه أين يقع، ولولا سرعة القريبات والصديقات في التقاط القطع من الأرض، لحلت من وقع في يدها أزمتها المالية ان كانت تمر فيها وأزمة من تحبهم، وتكبر مشكلة نثر قطع الذهب ان لم يكن ملكها واستعارته من احدى قريباتها أو صديقاتها، وهذا النثر العبثي قد يُشكل منحى غير جيد في العلاقات، وتستبعدها كل قريبة أو صديقة من فكرة إعارتها ذهبها، ثم يحدث مالا تتوقعه بناء على طلبات الجن الذين يجبرون المستنزلات على ملابس معينة، فلا أنسى المرأة التي لبست وزرة لان الجني المتلبس لها يماني، وأخرى كانوا يفسحون لها المكان تفادياً لغضب الجني الذي كان يقال عنه (مرجوج يحب يناقز) وكنت أرى هذه المشاهد خاصة في الاعراس التي تغني فيها ماري سعيد يرحمها الله، والأكيد أن هناك غير ماري، ولكن أقول الذي مازال في ذاكرتي. وهذه احدى المفارقات فالجني الرجل يتلبس الانثى، والجنية تتلبس الذكر، وبعضهن لديها وفرة فيكون متلبسها أكثر من جني، وأذكر احدى الفنانات الشعبيات عندما استنزلت سمعت إحدى السيدات تقول بتذمر (عسى ما يحضرون كل اللي فيها والله ما نطلع من هنا إلا بعد بكره) وبعضهن يكون نصيبها من الجن الطبقة المخملية فيتلبسها من شيوخهم وسلاطينهم، لذا يحضر لها دهن العود المعتق والدخون الأزرق، وقد رأيت مرة أخت إحدى هؤلاء وهي تخرج من شنطتها النوع الممتاز من العود والبخور فلم تدع شيئا للاحتمالات والصدف، فطلبات الجني الأمير قد لا تتوفر في كل مكان. وكانت هناك شروط وطلبات صارمة على الجمهور من لم تنفذها فهي مهددة بكسر رقبتها من الجني، وهذا إيحاء بعنف هؤلاء الجن ليس على من يتلبسهن بل على الحضور المساكين، مثلاً ممنوع منعاً قاطعا أن تكتف يديك، وبنفس الصرامة ممنوع أن تجلس في المحيط القريب من المستنزلة أنثى عليها الدورة الشهرية، وأذكر بعض المعازيم اللائي كن يغادرن القاعة مسرعات خوفاً أن تعتدي عليهن المستنزلة بسبب الدورة الشهرية! وكان يقال أن المشبك المعدني فيه شيء من الحماية، فلو وضعته في ملابسك، فالجن ينفر منك فهو والمشبك أعداء! كان بعض الحضور يرتجف خوفاً من الجني المتلبس في جسد امرأة لا تتعب ولا تهدأ من الرقص أو من رمي نفسها بقوة على الأرض وقد ترتطم أحياناً بحامل الفحم المشتعل لإحماء الطيران! والبعض الاخر لا يبالي من باب معرفة وخبرة مع الجن. وحقيقة لم يكن الموضوع يأخذ مني كل ذاك القبول والتصديق رغم صغر سني ولكن لا أقابله بالرفض والإنكار، كان موضوع مبهم ومجهول ومحير، حتى قرأت مقالا للكاتب التنويري عبدالله بخيت عن الاستنزال ولا أذكر هل كان في جريدة الرياض أو مجلة اليمامة فالصورة مشوشة في ذهني ولكن الأغلب أنها اليمامة وذلك وفقاً لصورة غير واضحة في ذهني عن كيفية مسكة المطبوعة، كان مقالا شبيه بالماء البارد الذي أيقظني و جعلني أستيقظ وأستقيم في جلستي، وأذكر أني قرأته أكثر من مرة، وكنت أحلل كل الاستفهامات التي طرحها، مازلت أذكر بعض تساؤلاته التي توافقت مع تساؤلات في داخلي ولم اكن أعرف كيف أوضحها لعقلي، فلم يكن لدي من المعرفة واللغة المساعدة لشرح حيرتي، ولا أود أن أذكر بعض التساؤلات خوفاً أن يكون فيها شيء من الخطأ بسبب التشويش في ذهني، بعد هذا المقال كنت كمن اخذ مضاد حيوي فعال، لم يعد للجن والاستنزال اي مدخل فكري علي وأصبح الوضع المجهول معروفا، وتحول ذهولي وطاعتي لتنفيذ الأوامر عند الاستنزال الى تحد وعناد، فعندما يقولون لا تكتف يديك، أكتفها وأقف أمام المستنزله في تحد صارخ بحديث داخل نفسي (يالله وريني وش بتسوين) وقد تعرضت لعدد من التوبيخات تصل للشتائم ممن حولي من الحضور خوفاً من إثارة غضب المستنزلة ووقتها سوف يعم شر غضبها وهياجها على الجميع، وفي مرة وقفت متكتفة فما كان من المستنزلة إلا أن أرتفع صوتها بالصراخ وشد شعرها وهي تنظر إلي، فشتمتني أخواتها وقريباتها على مسمع ومرأى الجميع، ومن عرفت سبب هيجان المرأة قالت (جعلهم يكسرون رقبتها عشان تعرف)، الرقبة كانت هي الهدف للجن وللناس، وتوقفت عن العناد ليس خوفاً من المستنزلة بل ممن حولها، فغصبها على تكتيف يدي أثبت لي أنه مازال هناك شيء من الوعي لديها بمن حولها وهي تنفذ الشائع من الأفكار والأقوال المؤمنة بها، أما خوفي الحقيقي كان ممن حولها، من الخائفين من الجني، كانت تصرفاتي تهدد أمانهم وتثير فزعهم وهنا ممكن يفعلون أي شيء بسبب سعير الخوف داخلهم، حتى شعرت أنهم يتمنون أن تؤذيني المستنزلة ليتحقق معتقدهم في قدرات الجن على أذية من لا ينفذون الأوامر! ولو اعتدت عليك المستنزلة لن تستطيع أن تقاضيها فالجني هو الفاعل، ومن يقاضي الجني الغاضب؟! خاصة ان كنت أنت المعتدي لعدم انصياعك لشروط معروفة لدى الجميع!  في احدى المرات استنزلت سيدة وكانت تدور داخل مساحة الرقص وهي تحبو، وكانت معها سيدة أعتقد أنها قريبتها تقول لها كلام والمستنزلة تهز رأسها بالنفي، ثم تلتفت المرأة نحو الفرقة وتنقل الرفض إما بهزة رأس مع تقطيب حاجبيها أو بكلمة واضحة (ماتبي) وشاع جو من الحيرة بين الفرقة والمهتمات لأمر المستنزلة، والعجيب أن معظم من عرف أن هناك مستنزلة لم يُلب طلبها يخاف من عواقب عدم تلبية الطلبات؟! وبعد مضي وقت قصير من المحاولات والمداولات أعلنت رئيسة الفرقة أمرا للنساء بتغطية وجوههن بسبب دخول رجل، عرفت فيما بعد أنه عضو في أحد الفرق الشعبية الرجالية ومتقن للونين، و”الونين” هي قصيدة في الغالب معجونه بالوجع والفراق والألم تبدأ بالآهات و”الون”، فالجني كان يطلب “ونينا”، وكل عضوات الفرقة لا يجدن هذا اللون، وبدأ الرجل يونّ بعد أن أخذ (المرجاف) وهو أحد أنواع الطيران، وبدأ بالونين ووضع فتحة الطار أمام فمه وأخذ بتحريكه للخلف والأمام حتى أنه يلامس وجهه في بعض الاحيان، وهذه الحركة التي يتفاوت فيها درجة الهواء يبدو أنها تساعد الصوت على الانتشار وتعطي شيء من الشجن، والمستنزلة التي كانت تحبو جلست وصارت تضرب على صدرها بقوة وحسرة، وكأن الرجل فتح قلبها على أوجاع كانت مندسة ومخفيه، في هذه الأثناء ارتفع صراخ اثنتان في جهات مختلفة من القاعة، يبدو كانت همومهن ثقيلة وجاءت فرصة الونين والجني للتنفيس عن هذا الثقل، ومازلت حتى اليوم أتساءل لماذا لا يوجد نساء في الفن الشعبي (يونون) ؟   استنزال فتاة لم تصل للعشرين أو في بداياتها كانت أحد المواقف التي شغلت تفكيري لسنوات، كانت والدتها تقف حولها وهي تغلي من الغضب، كيف تستنزل صغيرتها؟ وكل من حولها من النساء يحاولن تهدئتها ويبررون للفتاة بأن الأمر خارج عن إرادتها وغصباً عنها، العجيب أن الفتاة كانت ترقص فترة قليلة جداً من الوقت ثم تدور وهي تفرك يديها وتضرب بقدميها الأرض بقوة، كانت مابين لحظة وأخرى تتوجه كسهم نحو والدتها لضربها لولا النساء اللائي يقفن حاجز بينهما! كان موقفا عجيبا جداً ومثيرا، ولم أسمع كلمة عتب أو لوم على الفتاة التي كانت تتحرق لضرب أمها بسبب أن الجني هو الفاعل! لم تغادر الفتاة وأمها ذهني لسنوات وكنت أسعى جاهدة لمعرفة علاقتهما الفعلية مع بعضهما، ولعدم وجود معارف مشتركين استغرق الأمر ما يقارب ست سنوات حتى عرفت عن العلاقة السيئة جداً بين الأم وابنتها، ومن غرائب الحياة أن المعلومات التي عرفتها كانت من مصادر لم تخطر على بالي، وكان هذا الموقف من الأدلة داخلي عن ما يُسمى استنزال “الجرمه”، المرحلة الثانية حينما يتعقد الوضع مع الجني، وهي ضرب للطيران قريب جداً من إيقاع النقازي، بدون أغاني، طبول تتداخل أصواتها بسرعة وحدة وقوة، دون انسجام بينهم، حتى أنك تستغرب كيف يمكن الرقص على هذا النوع من الطق، ويبدو أن هذا هو المقصود بحد ذاته، فعدم التناغم والسرعة تجعل المستنزلة ترقص بشكل عبثي مضاعف ويسمح لها بالصراخ والهياج أكثر بفعل الطق السريع على الطيران والتداخل وكأنها تنسل من جسد مثقل بمشاعر موجوعة ومتألمة وتطير في فضاء فسيح وفارغ ومظلم، وفي العادة تلجأ المغنية للجرمة بعد أن تتعب من المستنزلة بغناء عدد من الأغاني علها تعود لرشدها أو بمعنى أدق على الجني أن يكتفي ويخرج منها لتكمل ليلة الفرح ويعود المعازيم لمتابعة رقصهن واحتفاليتهن، فالجرمة بمثابة الكي الذي يكون في آخر العلاج، وهي رسالة أخيرة للجني بأن وقتك انتهى، ولكن هناك استثناءات تحصل حينما تكون المستنزلة من قريبات أو صديقات الفرقة، وكأن هناك معرفة بطباع الجني ومزاجه، هنا يمكن أن تُعاد الجرمة مرة أخرى، أو تُغنى أغنية واحدة وأخيرة يطلبها الجني .    والاستنزال لا يقتصر على النساء فقط، فهو في عالم الرجال قد يكون أكثر بكثير، فالإيمان ببعض الأفكار لا تختص بنوع دون الآخر، فالأفكار الرائجة والإيمان بها، والهموم والأوجاع لا تفرق بين البشر بناء على أنواعهم، وفي طرق التعبير عنها، ومرة صرح ضارب الزير عبدالعزيز أبو رايش وهو من صاحب الطيران سنوات طويلة ضاحكاً بسخرية عندما سُال عن حقيقة الاستنزال (وش هالجني الطربان)! ورغم معرفة العديد للدوافع النفسية لهذا الرقص والهياج، إلا أن الحديث عنه قليل، وكأن العارفين يتحاشون الدخول في صراع يأخذه البعض لمنطقة دينية! وهذه الوسائل الهجومية والحادة التي يسلكها البعض لتخويف الناس من توضيح وكشف الخرافات التي تسيدت فترات طويلة هي المخيفة التي تحتاج الوقوف أمامها أكثر من قصص الاستنزال، أما البعض الآخر المصر على أن الرقص والهياج هو بسبب جني يتلبس الراقص فيكون دليله أنه رأى أو سمع أن أحد هؤلاء المستنزلين مسك جمرة مشتعلة أو وضعها في فمه، وهنا علينا التركيز أن معظم هذه الأقاويل المستشهدة بالأفعال الخارقة هي (أقاويل) يرددها المؤمنين بهذه الأجواء وأكاد أجزم أن من يرددها  لم يرها بعينه وإن زعم ذلك، ولو افترضنا أنها حصلت ألا يتبع هذه الجمرة إصابات خطيرة؟ أين الجني من حماية جسد يستضيفه ويرقّصه؟ ومن جهة أخرى ألم يرى أو يسمع هؤلاء المؤمنين بقصص الاستنزال من حاول أذية نفسه أو من حوله بسبب أمراض نفسية مختلفة؟ كل ما في الأمر أن المعلومات الأولى التي وصلت لعقولنا ولامست عواطفنا وأخذت مكانها داخلنا صعب التخلص منها، ونتعامل مع من يتشكك فيها أو يحاول تفكيكها وتحليلها بشكل شخصي حاد!! هؤلاء أنفسهم يقبلون صراخ وهياج من يسمونه مستنزل، ولو حصل هذا الصراخ من رجل أو امرأة في منزلهم أو مكان عام نتيجة ضغط شعور لم يستطيعوا السيطرة عليه، لانهالت عليهم نظرات الاستنكار والاستغراب وقد تصل للتجهم، وهذا لا يحصل مع المستنزل فعذر ورخصة الجني مقبولة ومبررة.