برنامج مقترح لرحلة سياحية بين أجنحة الكتب ومعالم المدينة:

معرض جدة للكتاب.. حياة داخل الحياة.

بعد أيام تستقبل “قبة سوبر دوم جدة” معرض الكتاب 2024، المعرض الذي يقام نهاية كل عام ميلادي، تستقبله بفرح، وتحتفي بالقادمين إليه من أماكن شتى، ناشرين، ومتحدثين، وضيوف، وزائرين.. أيامُ معرض الكتاب مبهجة، في العام المنصرم كنت أزوره بشكل شبه يومي، أكْثَرُ حدثَين استمتع بهما في العام ملتقى النص ومعرض الكتاب، واعتبرهما أعيادا بديلة أو اضافية. معارض ما بعد كورونا تغيّر فيها كل شيء، الموقع، ودور النشر، والمؤلفون، والقراء، والكتب، والفعاليات، والزائرون، حتى إنني لم أعد ألقى من تعودتُّ الالتقاء بهم في معارض سابقة.. عدد من دور النشر التي لم تكن معروفةً قبلُ صارت مقصَدًا، اتخذتْ مكانًا رَحْبًا لعرض إصداراتها، حظيَتْ بجمهورٍ عريضٍ من فئة عُمريةٍ مختارة، أضحَتْ تقدم للصبايا والشباب كتبًا مثيرةً، إما مزخرفةً ومزيَّنة أو كُتُبَ مشهورين مؤثرين في وسائل التواصل حتى لو لم تكن ذات مضمون قيّم، يكفي أنها مزخرفة، وربما قدّمَ المؤلف لإصداره في اليوتيوب أو الوسائل الأخرى بأسلوبٍ جاذب ومؤثراتٍ صوتيةٍ. لم تعد الكتبُ هي النتاج الوحيد في معرض الكتاب، فمنذ زمن حضرت الأنشطة الثقافية والفعاليات العديدة، المسرح يزدحم به الحضور، وتتجه الأمهات نحو قسم الطفل لإعدادِ أطفالٍ يقرؤون، محاضرات وفعاليات، ولم نعد نستغرب من مناظر الطوابير أمام دكاكين القهوة والشاي المنافسة الشرسة للكتاب في وقت عرضه. ميزة توقيت المعرض أنه موافقٌ للشتاء، و”جدة” صديقة الشتاء، فهي الأكثر دفئا مقارنة بمدن العالم المحيط.. بعض الزائرين يستثمر وجوده في جدة ليذهب لأداء العمرة، مكة وجدة يفصل بينهما أقل من ساعة، أما لو تم اختيار قطار الحرمين السريع كوسيلة نقل سريعة ومريحة فدقائق معدودة كفيلة للوصول إلى مكة المكرمة، والراغبون في ذلك عليهم الحجز قبل وصولهم بوقتٍ كافٍ، تنظيم الرحلة في غاية الأهمية لا سيما أن جدة مليئة بالأماكن التي تستحق الزيارة. وعشرة أيام وهي أيام المعرض قليلة لو أخذنا في الاعتبار الانشغال بالمعرض مع جولة سياحية. المنطقة التاريخية (البلد) في جدة جديرة بالزيارة أكثر من مرة، فزيارةٌ واحدة لا تكفي، كل شيء في البلد يستحق التأمل، المباني القديمة والأسواق العتيقة والحديثة والشوارع والناس والطرقات والموقع والأبراج الواقفة منذ عشرات السنين. فعلى سبيل المثال “عمارة الملكة” تجاوَزَ عمْرُها نصف قرن، وفي بلد جدة يشاهد الزائر أطوارًا من التاريخ، ولو رافقه أحد المرشدين أو العارفين سيظفرُ بأعذب القصص والحكايات عن قلب جدة ونواتها والمكان الذي بدأت منه المدينة العريقة ثم تمددت في جميع الاتجاهات.. واجهة أبحر الجديدة لا تبعد عن موقع معرض الكتاب سوى دقائق معدودة، وهي مكان رائع للتنزّهِ والمشي والاسترخاء ومَلء الصدرِ بنسيم البحر.. ولرواد “المولات” أقربُها إلى المعرض المول الجديد المبهر “ذا فيلج مول”.. كما يوجد عدد من المطاعم المميزة في مدينة جدة، فمنطقتي ذهبان وثول شمال جدة تتميز بمطاعم الأسماك الكبيرة والطازجة.. كما يوجد مطاعم سعودية متطورة لا تبعد كثيرا عن مقر المعرض، خلاف المطاعم العالمية ذات السلسلة والفروع المنتشرة في انحاء المدينة.. قد يزدحم المعرض بالبشر وخاصة عندما يتقاطع مع اجازة نهاية الأسبوع، وقد تمتلئ المواقف رغم سعتها، وحدث ذلك في معارض سابقة.. والبديل كانت مواقف مدينة الملك عبدالله الرياضية، حيث أعدَّ المنظمون حافلاتِ النقل الترددي، أما أنا ففضلت السير ضمن جموع من البشر، الطقس يساعد ومنظر الناس التي تفضل المشي كان محفزا.. ربما استغرقت عشرين دقيقة من المتعة أو تزيد قليلا.. المعرض في نسخته الماضية كان يفتح أبوابه ابتداء من الحادية عشر صباحا حتى الحادية عشر مساء. عشاق الكتب ومتأمليها والمبهورين بالعناوين والأغلفة عادة يتواجدون في الفترة الصباحية، ولكن الفعاليات في الفترة المسائية، لذا يتكاثر الناس في تلك الفترة.. الأمور تسير بنظام، وكم كبير من المرشدين والمرشدات وحراس الأمن ينظمون حركة الناس والسيارات. حتى أجهزة التقنية التي تتيح لك البحث من خلالها بكل سهولة ستجد مرشد أو مرشدة لمساعدتك.. تجربتي مع معرض جدة للكتاب تمتد عشرات السنين منذ أن كان يعقد بالقرب من جامعة الملك عبدالعزيز مرورا بالمعارض المعدة من قبل الغرفة التجارية، ثم المعرض الذي كان يقام في أبحر الجنوبية على البحر مباشرة.. ولا أخفيكم في السنوات الأخيرة أصبحت مع يوم المعرض الأول أشعر بحزن طفيف على عام ذهب من عمري، وذكريات جميلة افتقدتها، وكتب لم اقرأها بعد، ومشروع كتابي لم أنهيه بعد، واصدقاء الكتب الذين افتقدتهم فمعارض الكتاب هي التي كانت تربطني بهم. مع الأيام يتبدل ذلك الشعور شيئا فشيئا حتى أصل إلى النشوة فالجولة في معرض الكتاب قد تعادل متعة سيدة تتسوق في مول كبير لأول مرة. ولكن الفرحة تتلاشى وتنطفئ في اليوم الأخير ويتسلل الفراغ إلى داخلي وكأني فقدت صديق حميم.. أيام معرض الكتاب حياة داخل حياة، كتب جديدة، أصدقاء جدد، أمسيات جديدة، مسامرات جديدة، ومثقفون جدد.. فنون التسويق الحديثة أسهمت في ترويج الكتب؛ سواء من خلال هالة سابقة للدار أو مكان فسيح وأصناف كثيرة من الكتب وبائعين أنيقين فتيات وشباب يملكون مهارة عالية في الاتصال وفن التعامل مع العملاء. وفي أحد المعارض توقفت بدار نشر وركزت في طريقة البائع وهو يقنع سيدة برواية، كانت طريقته مقنعة ويظهر من خلالها الصدق، يصف لها الرواية وهو مؤمن بها، يصفها بطريقة مدهشة، يوظف ابتسامته ونبرة صوته ولغة جسده بطريقة احترافية، السيدة بدلا من شراء نسخة اشترت ثلاث نسخ لها ولصديقاتها. طلبتُ نفس النسخة وكانت مغلّفة واقترحت على البائع فتحها ولم أجد فيها ما يجذبني، حتى اسم كاتبها لأول مرة اسمع عنه، ولا أعلم كيف كان انطباع تلك السيدة! الأهم أن البائع استخدم مهارته ونجح في تسويق سلعته. معرض الكتاب ليس مجرد بيع أو شراء كتاب، هو لقاء أصدقاء والتعرف على مؤلفين وباحثين ودور نشر وحضور أمسيات وفعاليات وورش عمل مفيدة، هو نزهة فكرية عذبة.. بقي أن أقول للقارئ العزيز، حذارِ من الكتاب الذي يحتاج طابورا طويلا كي تصل إلى مؤلفه، بعد حين ربما لن تجد به القيمة أو التجربة الإنسانية التي تنشدها. وحذارِ من الكتب المزخرفة، والكتب المغلّفة، وأحذّر من كتب المترفين، وكتب محبي الاستعراض. ومن كتب المشاهير، يكفي الوقت الذي صرفته في متابعتهم. ولا أنصحك بالشراء لكاتب يُصدِر كتابًا كل عام، عندما يتحول الكاتب إلى آلة فلن يضيف شيئًا. الرواية الأجمل هي التي يتم طبخها على نار هادئة، وأجمل القصائد هي القصائد اليتيمة. ‏لذا حاول تكتشف بنفسك الكتاب الذي يناسبك، دون توصيات ولا قوائم، وعندما تقتنيه وتجد ذاتك فيه، فهو الإنجاز والتميز الذي تستحقه. *قاص وصحافي وسفير جمعية الأدب بجدة.