قصائدُ بالأبيض والأسود .

مقْبرة العَوْد* في الليل في المقْبرة التي أمام الليل أُخْرجُ دروسي الجامعيّة وأضعُها على الطاولة وأفكّر في النائمينَ حوْلي الذين يغْرقون في ألمِ الوحْشة أحلامُ ليلهم دَبِقة وأشدُّهم فروسيةً ذلك المذبوحُ بـ “نجاة” في “وِسْط الطريق” * ها هو الولَعُ يسري ويزرعُ ظلال الجَنّة بين أسرِّتنا. أمام المقبرة النائمة أقولُ لنفسي: لقد ماتَ الأبْطال ماتوا بقسْوة أحياناً وأحياناً في أحضَان أمَّهاتهم وربما هبطوا في نُعُوشٍ من المدن الفارهة لكن الرملُ الذي يرْتدي الذّهب ينتظرُ نُزَلاءهُ بشغف. الليلُ قاسٍ لكنهُ ضَرير في هذا العَماء يصيبني الخَدَرُ فيما طائرةٌ تهدرُ في هبوطها لتَخْمدَ كل عصافير رحيلي. أنتَبِهُ إلى أخطائي التي تركَتْني وحيداً في الليل وأعودُ إلى الغرفة لأرى روحي يتيمةً وسطَ أحلام رفاقي الصاخِبة صورٌ مارقةٌ، وجُزرٌ، وأحلام وعليَّ أن أغْطسَ في بئرِ أحلامِهم لكي أصْحو بلا مشقَّات. *حيّ العَوْد، أحد أحياء الرياض القديمة، وفي إحدى نواحيه تقع مقبرة العَوْد المعروفة. مرثيّة الصّباح الباكر وداعاً أيها الصّباح الباكر وداعاً للقطَرات الباردةِ التي تهْطِلُ فوق يديَّ على عجَل وللزوجةِ الهاجعة بمَللٍ في سَريري.. وداعاً لخيوط الشَّمس الأولى التي حمَتْ طُفولتي من هَبّات الجنّ ومن الأمراضِ المستعْصية وها هي ترتْطمُ بعشْوائية مُريبة بجِدْران منزلي. وداعاً لنُدَفِ النوم التي أسْرقُها بين حُلمٍ وآخر ثم أصْحو كمن أصَابتْهُ شظيّةٌ عائِمة وداعاً للعصافيرِ المَرحة التي تنتظرُ خُروجي من المنزل لتنقَضَّ على شُجيراتي الخضْراء. وداعاً لصوت باب الكراج الأتُوماتيكي الذي ينغلقُ ليصْبحَ فاصلاً بين نومي وساعات عملي. وداعاً لجِيْراني المسِنّين الذين يهْبطونَ كلّ صباح بملابسِهم المنزليّة الرثّة لكي يحْمِلوا أحْفَادهم إلى المدارس ويَزْجُروا المرضَ المتربَّص تحتَ السَّلالِم.. لقد غادرْتُ وظِيفتي، وعليّ الآنَ أن أتجرَّعَ الوقتَ الفارغَ مثلهُم وأن أقودَ أغنامِي التائِهةَ إلى البيت. سُهَاد إلى عبدالوهاب أبو زيد هذه الورقةُ التي انْتزَعَها مزارعٌ هِندي من قلبِ شُجيرة حِنّاء وأبْقاها حَارساً لأوْجاعهِ وهو يرْحل نحو البعِيد حيثُ تنسى المخلوقات الحزينة.. هذه اليدُ التي قاوَمت ببَسَالةٍ أسْواط المعلِّمين ولدْغات سعفِ النخيل وشُقوق الماضي البعيد كلُّها ترَكتِ القصيدةَ بلا بَهْجةٍ يُطَاردُها غرابٌ عابِر. لا تتْركِ البحرَ في سُهادهِ انتزعْ بعضَ أسْماكِه ليصْحُو طليقاً واجمعْ طَحَالبهُ لكي تصْفُو مِياهَه وأعدْ إليه نَوارسَهُ لكي “لا يقْضِيَ اللَّيل وحيداً”* يُحدِّقُ في فَوانيسِه التي أطفأهَا ضَبابٌ أسْود. - اشتباكٌ مع مجموعة الشاعر: “لا تترك الليل وحده”. نَوْرَس لم أعْرفِ النّوارسْ وَجَدْتُها يوماً في كتابِ الأناشيدِ المدرسيّ مَرسُومةً بالأبيضِ والأسْود فقط وبينهُما كانتْ تصْطَلي مراهَقتي الفَقيرة. لقد نَسيْتُها وفضّلتُ مطاردةَ الغِرْبان التي تحومُ بلا كَللٍ فوق َشجرةِ التِّين العَائلية طائرُ الأحلامِ ذاك الذي يشبِهُ قصيدةً أو امرأة ها هوَ يتقافزُ أمامي على الشاطئ المخْفُور بالصّخور دون أن يغادرَ مخيَّلتي لكنّه لا يعْبأُ بي ولا بحَفِيدي الذي يرْمِي في طريقهِ فُتاتَ خُبْزه.. إنهُ يتراكضُ فوقِ الرّمل ويصدحُ بصوتهِ الغَامض لتهبطَ نورسةٌ أخرى بالقربِ من مقْعَدي البَحري وأكْتُم أنْفاسي لكي لا يشْعُرا بوجُودي.. بضعُ خَطواتٍ بينَنا لكنَّها تُشْبهُ المسافةَ الغَادِرة بين شِبَاك الصيَّاد وشهْقَةِ الحُرية.