باتت عروض الأوركسترا السعودية تجوب أهم وأبرز مدن العالم، وتنقل صورة مشرقة عن روائع الفن السعودي العريق، والفريد بتنوعه بحكم امتداد الرقعة الجغرافية للمملكة العربية السعودية. من مصر والأردن والبحرين، إلى لندن ونيويورك ومكسيكو سيتي وطوكيو، قدمت الأوركسترا والكورال الوطني السعودي روائع موسيقية تحكي عراقة وتراث الوطن، وتسهم في تعزيز حضور الثقافة السعودية في المهرجانات والمناسبات العربية والعالمية، وتوطيد العلاقات الثقافية مع مختلف الدول، وذلك في إطار حرص وزارة الثقافة على تعريف المجتمع العالمي بروائع الموسيقى والفنون الأدائية السعودية، وتعزيز التبادل الثقافي الدولي بوصفه أحد أهدافها الإستراتيجية التي تسعى إلى تحقيقها تحت مظلة رؤية السعودية 2030. بداية قديمة وتنظيم وتطور جديد قد يتبادر إلى الذهن أن فرقة الأوركسترا والكورال الوطني السعودي التي أطلقتها هيئة الموسيقى التابعة لوزارة الثقافة عام 2021، حديثة التأسيس، لكن الحقيقة أن منشأها يعود إلى بداية الأربعينيات الميلادية، وإن لم تكن بنفس المسمى أو التنظيم الذي هي عليه الآن. بداية القصة تعود للعام 1942م عندما كلف وزير الدفاع آنذاك الأمير منصور بن عبدالعزيز، الموسيقار طارق عبدالحكيم بتشكيل فرقة موسيقية عسكرية، كانت نواة لرحلة فنية تطورت مع مرور الوقت واتسع نطاق نشاطها ومشاركاتها. ولأن مصر هي موطن الفن في العالم العربي، فقد ذهب الموسيقار طارق عبدالحكيم إليها للإعداد لتلك الفرقة الموسيقية والاستفادة من خبرة القامات الفنية المصرية، فعاد من أرض الكنانة مزودًا بخبرات فنية وعملية وتدريبية، كما شملت رحلته زيارة لبنان أيضًا لمزيد من الفائدة، ليشكل فرقة موسيقية عسكرية كتبت بدايات فصول جديدة من الفن السعودي. بعد ذلك بسنوات عدة، أعلنت وزارة الثقافة عام 2019 عن تأسيس الفرقة الوطنية للموسيقى وتهيئة فريق محترف لتمثيل الفن السعودي في المحافل والمناسبات الدولية، إلى أن جاء العام 2021 الذي شهد إعلان هيئة الموسيقى التابعة لوزارة الثقافة عن إطلاق إستراتيجيتها لتطوير القطاع الموسيقي في المملكة، المتضمنة حزمة مبادرات وخططًا وبرامج لدعم القطاع من جوانبه التنظيمية والتشريعية، ودعم منسوبيه في جميع التخصصات الموسيقية، من ملحنين ومؤلفين موسيقيين وعازفين وفنيين ومستثمرين، وتمكينهم من ممارسة نشاطهم في بيئة مثالية تكفل تطوير القطاع وتحويله إلى صناعة موسيقية مؤثرة. وخرجت الإستراتيجية بأكثر من 60 مبادرة موزعة على ركائزها الإستراتيجية الخمس، ومنها ركيزة «تقديم العروض الموسيقية وتوزيعها»، بهدف تهيئة منصات لعروض المواهب داخل المملكة، ودعم توفير المنافذ التي تسمح بالوصول إلى المنتج الموسيقي السعودي بسهولة. واشتملت تلك الركيزة على مبادرات عدة منها: تطوير ودعم الفرقة الوطنية السعودية للموسيقى والكورال الوطني السعودي التي بدأت مرحلتها الأولى، وتهيئتها للمشاركة في المهرجانات الموسيقية والعروض التي تعتمد على الفنون والثقافة في جميع أنحاء المملكة، ثم التوسع نحو المشاركات العالمية، إضافة إلى توثيق الموسيقى التقليدية السعودية والمحافظة عليها في 13 منطقة في المملكة، وإنشاء مكتبة موسيقية شاملة للأغاني التراثية والوطنية. واشتملت استراتيجية هيئة الموسيقى أيضًا على ركيزة «الدعم والتوعية والترويج» التي تهدف إلى رفع مستوى الوعي بالموسيقى وبأهميتها الفنية والاجتماعية، ودورها في التواصل الثقافي مع العالم. مشاركات عربية وعالمية قدمت الفرقة الوطنية السعودية والكورال عرضًا غنائيًا خلال مشاركتها في مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة عام 2022، قبل أن تقيم أول حفل موسيقي عالمي لها في قاعة «دو شاتليه» بالعاصمة الفرنسية باريس أواخر العام 2022، تحت مسمى «روائع الموسيقى السعودية»، بمشاركة الأوركسترا الفرنسية الفيلهارمونية، كأول مشاركة عربية في تاريخ مسرح الشاتليه، وبعرضٍ مدمج بين فرقة سعودية عربية وأوركسترالي فرنسي، وذلك في إطار تعزيز التعاون الثقافي والموسيقي بين البلدين الصديقين، ونشر ثقافة الموسيقى السعودية. في العام 2023 ظهر اسم «الأوركسترا والكورال الوطني السعودي» وشاركت في الحفل الختامي لمعرض بينالي الفنون الإسلامية 2023، بمدرج ساحة البينالي المُقام في صالة الحجاج الغربية بمطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، ثم في مهرجان جرش للثقافة والفنون 2023 بالأردن في دورته السابعة والثلاثين، وفي مهرجان إربد العاصمة العربية للثقافة بالأردن، وفي مهرجان الموسيقى والفنون الشعبية الخليجي الذي أقيم في البحرين. روائع الأوركسترا السعودية أطلقت هيئة الموسيقى في منتصف العام الماضي، مبادرة «روائع الأوركسترا السعودية» حيث نظمت أمسية موسيقية في المسرح الوطني بمدينة مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك في شهر يونيو 2023، برعاية صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان وزير الثقافة وذلك في ثاني محطاتها العالمية، بعد العاصمة الفرنسية باريس. وتضمن الحفل مشاركة 33 عازفًا موسيقيًا، و39 مغنيًا من الأوركسترا والكورال الوطني السعودي، و40 مؤديًا من فرقة الفنون الأدائية، إلى جانب 57 عازفًا موسيقيًا من أوركسترا كارلوس تشافيز المكسيكية، ومارياتشي فرقة باليه فولكلوريكو المكسيكية لأماليا هيرنانديز. بدأت الفقرة الأولى مع الأوركسترا والكورال السعودي يقودها رئاب أحمد في عرضٍ موسيقي بدأ بأغنية «المروتين» للفنان طارق عبدالحكيم مع الفن الأدائي الدانة، ثم أغنية «ذا غرامك» ورافقها الفن الأدائي «الينبعاوي»، وتلاها أغنية «صبولي فنجان» والفن الأدائي رايح، ثم أغنية «ستل جناحه» للفنان محمد عبده بمرافقة الفن الأدائي «السامري»، وبعدها قُدمت أغنية «يا أهل الشميسي» للفنان بشير شنان بمرافقة الفن الأدائي «الخبيتي»، ثم قُدمت أغنية «ضامني البرد» مع فن الخطوة، قبل أن تفاجئ الأوركسترا والكورال السعودي الجماهير الحاضرة بأداء أغنيةٍ مكسيكية وسط تفاعلٍ كبير من الجماهير التي وقفت بعد نهاية الأغنية وصفقت بحرارة إعجابًا بإتقان الأغنية. وقدمت مغنية السوبرانو السعودية ريماز عقبي بمصاحبة عازف البيانو آنهيل غابرييل لوبيز، مجموعة من الأغاني الأوبرالية في الفقرة الثانية من الحفل، فيما جاءت الفقرة الرابعة والأخيرة بنكهة مميزة نقلت روائع الفن السعودي إلى مسامع الجمهور المكسيكي، وذلك حين قدمت الأوركسترا والكورال الوطني السعودي مع أوركسترا كارلوس تشافيز المكسيكية بقيادة المايسترو فيغورغ سارغسيان، ميدلي من الموسيقى السعودية بتوزيعٍ موسيقي لرئاب أحمد وجورج قولته، متضمنًا أغان شهيرة من أبرزها «بس لحظة»، و»رجاوي»، و»يا بعدهم كلهم»، و»اختلفنا»، و»ليلة لو باقي ليلة»، و»بنلتقي»، و»ليلة خميس»، و»أجاذبك الهوى»، و»ما تقول لنا صاحب»، و»عشقت الليل»، و «في سحابة»، و»كذا من ربي»، و»عيونك آخر آمالي»، قبل أن تُختتم الأمسية بالأغنية الوطنية «فوق هام السحب». المشاركة الدولية الثالثة كانت في حفل موسيقي أقيم في مسرح دار الأوبرا «متروبوليتان» في مركز لينكولن بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2023، بحضور صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن فيصل بن عبدالعزيز، وصاحبة السمو الملكي الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان سفيرة خادم الحرمين الشريفين لدى الولايات المتحدة الأمريكية. وافتُتح الحفل بمشاركة 80 موسيقيًا من فرقة الأوركسترا والكورال الوطني السعودي بمعزوفة أغنية «صوتك يناديني» للفنان محمد عبده، لتستعرض الفرقة بعدها بمرافقة 60 مؤديًا من هيئة المسرح والفنون الأدائية مجموعةً من الفنون الشعبية السعودية المتنوعة، وهي فن الدانة مع أغنية «على العقيق»، وفن الليوة مع أغنية «معشوقتي»، وفن الخطوة مع أغنية «ضمني الورد»، وفن المجرور مع أغنية «يا ساجعات الحمام»، وفن السامري مع أغنية «تستاهل الحب»، وفن الربش مع أغنية «ما تشابه»، وفن الينبعاوي مع أغنية «مدر الشراع»، لتختتم الفرقة القسم الأول من الحفل بأغنية « Fly me to the moon» بإيقاعات وعزف شرقي سعودي. وشنّفت المغنية السعودية ريماز العقبي أسماع حضور دار الأوبرا متروبوليتان بقِطع أوبرالية عالمية، فيما قدمت فرقة الجاز الأمريكية ديزي غيلسبي مجموعةً من أشهر المقطوعات الموسيقية العالمية، لتشارك معها فرقة الأوركسترا والكورال الوطني في عرضٍ مشترك بمجموعة من الأغاني، لتُختَتم بعدها بعزف وغناء ميدلي لمجموعةٍ من الأغاني السعودية. جائزة التميز الإعلامي ومحطات دولية جديدة افتتحت مبادرة «روائع الأوركسترا السعودية العام الحالي 2024 بتحقيقها جائزة التميّز الإعلامي في التكريم الخاص نظير أعمالها الوطنية الخلاّقة، وذلك في الحفل الذي نظمته وزارة الإعلام في يناير الماضي لتكريم الجهات والأفراد بجائزة التميّز الإعلامي نظير تميزها في تقديم منتجات نوعية ذات أثر إعلامي وطني. ويأتي فوز مبادرة «روائع الأوركسترا السعودية» تقديرًا لإسهاماتها الفاعلة في نقل التراث الغنائي السعودي إلى العالم عبر مشاركاتها الدولية المتعددة. وفي هذا الإطار، كانت لندن المحطة الرابعة للمبادرة، بحفل موسيقي أقيم على مسرح «سنترل هول وستمنستر» بالعاصمة البريطانية، وذلك بمشاركة 100 موسيقي ومؤد من فرقة الأوركسترا والكورال الوطني السعودي، بحضور أصحاب السمو والمعالي، وعددٍ من المسؤولين ورجال الأعمال والإعلام. وتجسيدًا للإبداعات الشعرية التي قدمها الشاعر الراحل صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن -رحمه الله-، كانت البداية بتكريم لمشواره الثقافي الكبير الذي قدم من خلاله العديد من الأعمال الشعرية التي أثرت الساحة الثقافية بمكنون شعري مميز ومثر، حيث بدأت فرقة الأوركسترا والكورال الوطني السعودي الحفل بأغنية «أنا من هالأرض»، التي كتبها الأمير الراحل، وغناها الفنان محمد عبده، ولحنها الفنان الدكتور عبدالرب إدريس. وتعزيزًا لحضور الفنون السعودية على الساحة العالمية، شاركت هيئة المسرح والفنون الأدائية بثلاثة فنون صاحبت أغاني سعودية شهيرة، جسدت في بعض الأعمال الفنية ونقلها بصورة ثقافية تعكس الموروث الثقافي السعودي، حيث قدم الفن السامري على أنغام وموسيقى «أسمحيلي يالغرام» للفنان محمد عبده، وشارك الفن الينبعاوي في أغنية «حنا طلبنا الله» المستوحاة من الفن التراثي السعودي، وفن الربش بأغنية «سعوديين». وأنهت الأوركسترا والكورال الوطني السعودي الفقرة الأولى من الحفل بأداء لأغنية «Roling in the Deep» الشهيرة للنجمة البريطانية «أديل» باللون السعودي، كما استفتحت الفقرة التالية بأداء للأوركسترا الملكية الفلهارمونية البريطانية، و» “RSVP Voices” بقيادة المايسترو البريطاني «بينجامين بوب»، ومغنية الأوبرا «سارة كونولي»، حيث بدأت الفرقة البريطانية فقرتها بأغنية «Walton» للتاج الإمبراطوري. وبتعاون يمزج موسيقى وثقافة حضارتين، اختتم الحفل بأداء مشترك للأوركسترا السعودية مع الأوركسترا الفلهارمونية الملكية البريطانية بقيادة المايسترو السعودي هاني فرحات، عبر عددٍ من الأعمال الموسيقية بتأليف محمد عشي ورامي باصحيح. طوكيو المحطة الخامسة وتستعد الأوركسترا السعودية لمواصلة جولاتها العالمية في محطتها الخامسة بالعاصمة اليابانية طوكيو يوم الجمعة 22 نوفمبر الجاري، حيث ستقدم أمسية موسيقية فريدة تجمع بين التراث السعودي الغني والفنون الأوركسترالية العالمية على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي كونسيرت هول». وستشارك الأوركسترا والكورال الوطني السعودي بأعمال موسيقية تعكس للعالم جمال التراث الثقافي والتنوّع الفني في تاريخ الموسيقى السعودية، كما يتضمن الحفل مشاركة الأوركسترا الإمبراطورية اليابانية «غاغاكو»، التي تعزف نوعًا من الموسيقى اليابانية التقليدية التي توارثتها اليابان منذ 1300 عام، وأكاديمية الأوركسترا في كلية طوكيو للموسيقى، وهي أقدم جامعة موسيقية خاصة في اليابان، تأسست في عام 1907. وستُقدّم الأوركسترا والكورال الوطني السعودي عرضهما الموسيقي تحت قيادة المايسترو السعودي هاني فرحات والمايسترو السعودي رئاب أحمد، كما سيُقدّم الفنان الياباني توموياسو هوتاي، المعروف بمسيرته الفنية في عالم موسيقى الروك عرضًا خاصًا به في الحفل، وسيشهد المسرح تعاونًا ثقافيًا يمزج بين الموسيقى السعودية واليابانية.