أول كاتب في الجزيرة العربية يؤلف بالفرنسية ..
أحمد أبو دهمان.. سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني .
من قرية صغيرة في محافظة سراة عبيدة، إلى أبها فالرياض ثم باريس، أعقب ذلك التحليق في آفاق العالمية، كانت هذه هي ملامح رحلة الكاتب والروائي والشاعر أحمد أبو دهمان الذي انتقل إلى رحمة الله عن عمر يناهز 76 عامًا. لم يؤلف أبو دهمان سوى رواية واحدة هي (الحزام) لكنها كانت كفيلة بنقل إبداع الثقافة السعودية من الإطار المحلي إلى العالمية، وذلك لأنه أول كاتب في الجزيرة العربية يؤلف نصًا إبداعيًا باللغة الفرنسية، لذا فقد لقب بـ “سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني”. ولد أحمد أبو دهمان عام 1949م في قرية آل خلف بمحافظة سراة عبيدة في منطقة عسير جنوب المملكة العربية السعودية، وينحدر من قبيلة قحطان الشهيرة، وكانت نشأته ريفية بسيطة بين الجبال والطبيعة والبيئة القروية بكافة تفاصيلها، التي تغلغلت في أعماقه وانعكست فيما بعد على كتاباته، خصوصًا في روايته الشهيرة التي كتبها باللغة الفرنسية ثم نقلها فيما بعد إلى العربية بنفسه. درس الابتدائية والمتوسطة في قريته، قبل أن يكمل المرحلة الثانوية في أبها، ثم التحق بجامعة الملك سعود في الرياض ونال درجة البكالوريوس في اللغة العربية، قبل أن يتم تعيينه معيدًا في الجامعة. وفي سن الثلاثين، ابتعث للدراسة في جامعة السوربون العريقة بالعاصمة الفرنسية باريس، وتحصل منها على الماجستير في الأدب، وهناك التقى بزوجته الفرنسية، وأمضى فيما بعد سنوات في مدينة النور، وعاصمة الموضة والجمال والأدب. عمل في بداية حياته العملية معلمًا لفترة وجيزة، قبل أن يعمل مديرًا لمكتب مؤسسة اليمامة الصحفية في باريس منذ عام 1982م، وظل في منصبه لأكثر من عقدين، وكان يطل على قرائه من خلال زاويته الشهيرة في صحيفة الرياض "كلام الليل" حيث حملت مقالاته تنوعًا فريدًا بين الأدب والسياسة والثقافة، وأسلوبًا أدبيًا محببًا، واستقطب أبو دهمان العديد من الكتاب والمفكرين العرب المقيمين في فرنسا للكتابة في جريدة الرياض. فتح التدرج في الانتقال من مكان لآخر، آفاق الإبداع أمام أبو دهمان الذي تشكلت شخصيته في القرية وعاداتها، ثم اتسعت مداركه في المدينة "أبها" التي وجد فيها من الحرية ما لم يجده في قريته التي ظلت مرتبطة بوجدانه، مؤثرة في إنتاجه وكتاباته، ثم كان الانتقال إلى العاصمة "الرياض" التي عرفت بداية مسيرته العملية، قبل أن يغادر إلى باريس التي استقر بها سنوات طويلة، وكل تلك الانتقالات لم تكن مكانية فحسب بل عاطفية ووجدانية، باختلاف كل منها وتميزه عن الآخر. ولدى عودته إلى الرياض بعد سنوات طويلة من الغربة في فرنسا، أسس أبو دهمان مؤسسة الحزام للاستشارات الإعلامية، وعمل رئيسًا تنفيذيًا لها، ويبدو أن "الحزام" لم يفارق الكاتب الراحل طوال حياته بصفته رمزًا خالدًا في وجدانه. شارك الكاتب الراحل في عدة مؤتمرات وملتقيات وندوات، منها مشاركته في الأيام الفرانكفونية التاسعة بالرياض، وألقى فيها خطابًا في سفارة فرنسا، ومحاضرة باللغة العربية كان عنوانها "كاتب سعودي في باريس" وذلك بمكتبة الملك فهد الوطنية. وكان الكاتب العربي الوحيد المشارك بمناسبة مرور عشرين عامًا على بدء كتابات (تانتان) الشهيرة للأطفال، وحصل على المركز الثاني بجائزة القارات الخمس للأدب المكتوب بالفرنسية في المنتدى المعروف باسم/محمد أركون. له مؤلفات قيد الإعداد للنشر، من أهمها أطروحة دكتوراه عن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، كما كان يعتزم تأليف قصص للأطفال لكنها لم تر النور. اهتمام فرنسي وترجمات عالمية روايته "الحزام" صدرت باللغة الفرنسية عام 2000م عن دار النشر الرفيعة "غاليمار" في باريس، ليكون أول كاتب سعودي، بل أول كاتب من شبه الجزيرة العربية يؤلف عملًا إبداعيًا بتلك اللغة، وترجمت روايته بعدها إلى العديد من اللغات كالإنجليزية والإسبانية والألمانية والهولندية والبولندية، فضلًا عن النص العربي للرواية الذي كتبه أبو دهمان بنفسه، وصدر بعدها بعام. استقطبت الرواية اهتمامًا كبيرًا في الوسط الأدبي الفرنسي، بدليل إعادة طبعها أكثر من 11 طبعة باللغة الفرنسية، كما تناولتها العديد من الدراسات الأدبية والنقدية في أكثر من جامعة وثقافة، بل إنها اعتمدت كمادة أساسية في الأدب الفرانكوفوني في المدارس الثانوية المهنية في باريس عام 2007م. فسر أبو دهمان سر اختياره نشر روايته باللغة الفرنسية بدلًا من العربية، مؤكدًا أن اختياره للفرنسية لم يكن تقليلًا من العربية، بل وسيلة لإيصال الحقيقة الثقافية السعودية للعالم الغربي، وقال في أحد اللقاءات: "كتبتها بالفرنسية لأني عملت باحثًا وصحفيًا، ورأيت حينها لدى الكثيرين كرهًا لبلادنا، فأردت أن أنقلها بحقيقتها كما وجدتها وأحببتها"، مشيرًا إلى أن الرواية كتبت في الأصل لزوجته وابنته قبل أن تُنشر، وهو بذلك يرى في لغته المكتسبة أداة للتواصل بين الثقافات وليس تنكرًا للهوية. وأوضح أبو دهمان أن "الحزام" لا تعد سيرة ذاتية، وقال: "كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي". واعترافًا بقيمة هذه الرواية، أهدى سمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة في شهر يونيو 2023، رواية "الحزام" إلى وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد المالك. رحيله خسارة كبيرة أثار رحيل أبو دهمان في أوائل شهر ديسمبر 2025، حزنًا كبيرًا في الأوساط الأدبية والثقافية والإعلامية، ونعاه الكثير من الأدباء والنقاد حيث عدوا رحيله خسارة كبيرة. وكتب الكاتب والقاص والروائي أ. محمد علي قدس: "غاب ورحل.. في صمت وعزلة وألم، بعد أن ملأ الدنيا ضجيجًا بعد صدور روايته المشهورة ( الحزام) عام 2000م. كان حلم أحمد أبو دهمان بعد تخرجه من جامعة الملك سعود بالرياض قسم اللغة العربية، أن ينتقل بأحلامه إلى عاصمة الثقافة التي هي حلم ومقصد أدباء صنعوا مجدهم قديمًا وحديثًا عبر جامعة السوربون، حيث تعلم الفرنسية وأتقنها وأصبح أول روائي سعودي يصدر روايته بالفرنسية وترجمت للغات عالمية عدة. يعد الأستاذ أبو دهمان من الإعلاميين الذين اهتموا بالصحافة وكان الإبداع السردي أحد أهم اهتماماتهم في الكتابة، وقد أخذ عموده اليومي (كلام الليل) سماته الإبداعية ونمطية السرد وسحره، شغل منصب مدير مكتب مؤسسة اليمامة جريدة الرياض خلال تحضيره لرسالة الماجستير. رحمه الله. رحيله الصامت والمفاجئ يعد خسارة لإبداع كان من أهم فرسانه". أبودهمان وروايته اليتيمة من جهتها، كتبت القاصة والروائية - سفيرة جمعية الأدب بالرياض أ. فاطمة عبدالله الدوسري (بنت الريف): "يُعدّ الأديب والروائي السعودي أحمد أبودهمان "رحمه الله" أحد الأصوات السردية العربية التي أسهمت في نقل التجربة المحلية إلى أفق إنساني واسع، عبر كتابة تتكئ على الذاكرة، وتستثمر المكان بوصفه كيانًا حيًّا نابضًا بالمعنى. وقد استطاع من خلال منجزه الروائي الوحيد أن يقدّم سردًا يتقاطع فيه الشخصي بالجمعي، والواقعي بالأسطوري، ضمن لغة شاعرية هادئة وعميقة. وُلد أحمد أبودهمان في جنوب المملكة العربية السعودية، ونشأ في بيئة قروية شكّلت وعيه الأول بالإنسان والمكان والذاكرة. هذا الانتماء المكاني لم يكن مجرد خلفية جغرافية، بل تحوّل في أعماله إلى بؤرة سردية أساسية، استعاد من خلالها تفاصيل الحياة، والعلاقات الإنسانية، والتحولات الاجتماعية. انطلقت تجربته الروائية من إحساس عميق بالحنين،- كان مغتربًا في فرنسا- والاشتباك مع سؤال الهوية، فكانت أعماله بمثابة إعادة كتابة للطفولة، واستحضار للقرية بوصفها ذاكرة كبرى لا تنفصل عن الذات. يتسم خطاب أحمد أبودهمان السردي بعدة سمات بارزة، من أهمها: * الاعتماد على الذاكرة بوصفها محركًا أساسيًا للسرد. * حضور المكان حضورًا كثيفًا، حيث تتحول القرية إلى كائن حيّ يشارك في تشكيل الأحداث. * اللغة الشاعرية التي تمزج بين السرد والوصف والتأمل. * البعد الإنساني الذي يجعل التجربة المحلية قابلة للتلقي الكوني. يظهر هذا بوضوح في روايته «الحزام»، التي قدّم فيها سيرةً سرديةً مشبعة بالحنين والصدق الفني، حيث يقول في أحد مقاطعها: "لم تكن القرية مجرد مكان نغادره، كانت جزءًا من دمنا، كلما ابتعدنا عنها نزفت في داخلنا." هذا الاقتباس يكشف عمق العلاقة بين الذات والمكان، ويعكس كيف تتحول الجغرافيا في نصه إلى ذاكرة شعورية. في رواية «الحزام»، تتجلّى قدرة أبودهمان على تحويل التفاصيل اليومية إلى مشاهد إنسانية كثيفة الدلالة، ومن ذلك قوله: »كنا نكبر بسرعة، لا لأن الزمن كان يركض، بل لأن الفقد كان يسبقنا بخطوة«. كما تتبدّى رؤيته للعلاقة بين الماضي والحاضر في مقطع آخر: »الماضي لا يرحل، هو فقط يغيّر مكان جلوسه في ذاكرتنا«. أما في (نصوصه السردية ذات الطابع القروي)، فيحضر الحس التأملي بوضوح، حيث لا يكتفي الكاتب بسرد الحدث، بل يغوص في أثره النفسي والوجداني، جاعلًا من السرد مساحة للتأمل في التحولات الاجتماعية وقسوة الانتقال من البساطة إلى التعقيد. يمثل أحمد أبودهمان نموذجًا للكاتب الذي استطاع أن ينطلق من المحلي ليصل إلى العالمي، وأن يجعل من تجربته الذاتية مادة فنية قادرة على ملامسة وجدان القارئ العربي والإنساني عمومًا. وقد أسهمت أعماله في إثراء الرواية السعودية، خصوصًا في مجال الرواية التي تحتفي بالمكان والذاكرة والإنسان. إن تجربة أحمد أبودهمان الروائية تجربة قائمة على الصدق الفني، والوفاء للذاكرة، والوعي بجماليات السرد. وقد نجح عبر أعماله في أن يحفظ للمكان روحه، وللإنسان حكايته، مقدمًا نصوصًا تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتبقى مفتوحة على تأويلات متعددة". سيرة حياة تُروى بالحزام وقال الأديب والروائي أ. أحمد السماري: "غاب أحمد أبو دهمان عنا وعن المشهد الثقافي السعودي، الخبر أثار عاصفة من الأحزان والأشجان، حياته تجربة إنسانية مكتملة، كُتبت بين القرية والمدينة، وبين الجبل والوادي، ثم امتدت إلى باريس حيث اتسعت الرؤية، وبقي قلبه هناك معلّقًا… عند شمس عسير الأولى. وُلد أبو دهمان من رحم قرية تعرف معنى الصبر، وتفهم لغة الأرض، وتنهض مع الفجر كما لو أنها على موعدٍ مقدّس مع الشمس. تلك القرية؛ مكان نشأة، وينبوع تدفّق منه وعيه الجمالي والإنساني، وظهرت لاحقًا متجسدة في روايته الوحيدة «الحزام»، الرواية التي بدت أقرب إلى أغنية جبلية طويلة، تُغنّى عندما يريد القارئ أن يستمتع بجمالها. في «الحزام» يكتب أحمد أبو دهمان القرية بوصفها جغرافيا الكون، وبوصفها كائنًا حيًّا؛ الأنثى فيها ذاكرة وحياة، والرجل قوة وحماية، والأرض أغنية متجددة، لا تشيخ مهما تعاقبت المواسم. القرية عنده أسرار وجمال وشجاعة وأساطير، بينما المدينة هي الجديد المثير، المتمرّد، الذي يغوي ويقلق في آنٍ واحد. بين هذين العالمين، تشكّلت شخصية «أحمد الجنوبي» كما أراد لها أن تكون: بسيطة، نقية، مشحونة بالدهشة الأولى. الرواية، في جوهرها، سيرة طفولة وصبا، لكنها سيرة تُروى بحسّ شعري عالٍ، وكأن الكاتب يعزف على ذاكرته لا على الورق. يكتب المدرسة، وحصة التعبير، وأحلام الفتى الذي تمنى أن يكون «القمة» وأن يكون «الملك»، فإذا به يصبح ملكًا في مملكة أخرى؛ مملكة السرد واللغة، حيث تحققت رؤيا الأب، بعيدة عن أمكن تخيّلها، متحققة لما أرادها القدر. ويبلغ النص ذروته حين يتعامل مع «الحزام» بوصفه رمزًا، يعبر عن طقس اجتماعي. إنه تتويج الرجولة، الاختبار القاسي الذي لا يُمنح إلا لمن امتلك الشجاعة والصبر. لحظة الختان العلنية لأبناء القرية هي لحظات حاسمة من عالم الصبا إلى عالم الرجال، لحظة فخر للأمهات، وامتحان لا يُسمح بالفشل فيه، لأن الخسارة تكون مضاعفة ألم الجسد، ووصمة عار قد تطارد الفتى وتغلق أمامه أبواب المستقبل. وفي أحد أجمل مقاطع الرواية يقول أبو دهمان: »كنا على موعد مع الشمس كل صباح… وقد اعتاد أبي أن يقول لي إن الشمس ليست إلا أداة عمل في القرية». بهذه الجملة المكثفة، يلخّص الكاتب فلسفة المكان: الشمس زينة الحياة، والعمل، والاستمرار. لا غياب لها، ولا اختفاء، كما لا غياب لذاكرة القرية في وجدانه مهما ابتعد. حياة أحمد أبو دهمان سارت على هذا الإيقاع ذاته؛ غادر قريته، وانتقل إلى الرياض، ثم إلى باريس للدراسة والعمل الصحفي، لكنه لم يغادر «الحزام» أبدًا. ظلّ يحمل قريته داخله، ويكتبها بصمت، ويعيش على تخوم الحنين والطموح. وربما لهذا اكتفى برواية واحدة؛ لأنها قالت ما أراد قوله كاملًا، وتركَت الباقي للذاكرة. رحل أحمد أبو دهمان، وبقي «الحزام» شاهدًا على أن بعض الكتّاب لا يحتاجون إلى كثرة الأعمال، لأن العمل الصادق الواحد قد يكفي ليصنع الخلود". غادر القرية لكنها لن تغادره من جانبه، كتب الأديب أ. لاحق العصيمي: "برياحين الجنوب السعودي استطاع أحمد أبو دهمان أن يعطر الأدب الفرنسي. ثلاثون عامًا من الإقامة بالقرب من عطورات باريس وزهورها؛ لم تستطع إلغاء حضور شذا رياحين الجنوب من ذاكرة ووجدان الروائي أحمد أبو دهمان. غادر القرية ولكنها لم تغادره، بل ظل يحملها ويحمل حكاياتها وأغانيها معه. وحينما أراد أن يحكيها لمن يحب؛ كانت حكايته بلغة الذين أحبهم، كانت حكايته الأولى بالفرنسية. قبل أن يستوعب غناء قريته الجنوبية أكثر من 7 لغات.. إذ غناها الفرنسيون لأكثر من 11 مرة .ولعل هذا يثبت لنا صحة ماقاله الروائي أحمد أبو دهمان قبل أكثر من ربع قرن إذ يقول: "الذي يجيد الغناء بلغته لا يجد صعوبة في الغناء بلغة أخرى". حينما ضجر بودلير في باريس كتب الشعر. ولكن أحمد أبو دهمان حينما أحب في باريس كتب النثر. إن كان يعتقد ابن طباطبا بأن أعذب الشعر أكذبه، فحتمًا بأن ابن دهمان يعتقد بأن أعذب السرد أصدقه، ولا يمكن أن تكون رواية الحزام إلا الصدق الذي سكبه أحمد أبو دهمان في قالب الرواية. رحم الله أبا نبيلة .والعزاء للقراء، ولكل الأقلام الأدبية النبيلة". أبو دهمان.. روح القرية وتحكي كاتبة المدونات والمهتمة بالشأن الثقافي أ. شادن غرمان زين، قصة اختيارها للرواية في إحدى مراجعاتها فتقول: "عندما طُلب مني تقديم مراجعة لكتاب أمام 25 قارئًا من مختلف دول العالم العربي؛ اخترت رواية (الحزام) وقلت عنها: سيرةٌ ذاتية للقرية. لهذه الرواية صوت نايٍ رقيق أو ربما صوت مزمارٍ رنّان من مرتفعات الجنوب، يكتب أبو دهمان هذهِ الرواية بشجنٍ واضح، واضحٍ في السطور، في الحكايا، في السرد في الانتماء الواضح لروح القرية الساكنة فيه، رغم تغّربه في "باريس". الحزام روايةٌ مُتطبعةٌ بسيرةٍ ذاتية ومُطعَمةٌ بنشأة حياة الكاتب، وحكايةٌ لقرية ستظل أبد الآبدين مخلدة وقد نجح أبو دهمان في ذلك. الحزام هي روَايةٌ خضراء زاهية، لا أطلقُ عليها خضراء استدلالًا بلون غلافها ولا زاهيةً لزهوّ طوق الزهر على الصبي في غلافها -ولو أنها تعطي هذه الانطباعات- إلاّ أنها خضراء وزاهيةٌ في نظري لسببين: خضراء كأرض «حزام» الصافية، فالصفاء إن كانت دلالتهُ زُرقة السماء، فإنه في رواية «الحزام» أخضر، وزاهية ببساطتها، في طرحها، في تفاعل روح القرية والحس الإنساني، زاهيةٌ في جدلها الرقيق. ماركيز خلّد قرية ماكندو الخيالية واحتفى العالم بها وبقيت حتى بعد رحيله، كم أرجو أن يبقى أبو دهمان حاضرًا في روح القرية، وأن يكون الحزام عملًا روائيًا وسينمائيًا، فكما في الرواية، يبدي «حزام» خوفه لأبو دهمان ويخشى من أنه يبيع القرية فيجيبه ويقول «هل يبيع الإنسان روحه؟». رحم الله أبو دهمان". ويقول الشاعر والمستشار الثقافي والإعلامي أ. محمد عابس: "عرفت الأستاذ أحمد أبو دهمان عن بعد عبر كتاباته في صحيفة الرياض حيث عمل مديرًا لمكتب مؤسسة اليمامة الصحفية في باريس، ثم خلال زيارتي الاذاعية لفرنسا عام 1999 حيث تعرفت عليه عن قرب ثقافيًا وإنسانيًا لما يتميز به من وعي عميق وطيب معشر وأخلاق رفيعة وهدوء رائع خلال النقاشات. وعند عودته إلى الرياض بشكل دائم عمل رئيسًا تنفيذيًا لمؤسسة الحزام للاستشارات الإعلامية. وكان التواصل مستمرًا هاتفيًا وعبر حساباتنا في وسائل التواصل ولقاءاتنا الشخصية المستمرة، ولقاءاتنا في المناسبات الثقافية الكبرى مثل سوق عكاظ ومعرض الكتاب وغيرها من المناسبات، إلى جانب الحضور في اللقاءات الاجتماعية. كان رحمه الله يقدر الصداقة والزمالة كثيرًا ويحرص عليها، وإن كانت لديه غصة في الفترة الأخيرة كنوع من الاحتجاج السلمي على بعض الجهات والأشخاص. كان غفر الله له يتميز بحضور جميل وذاكرة أنثروبولوجية متميزة وبخاصة عن جنوب غرب المملكة عمومًا وقريته (آل خلف) بشكل خاص، وكان مقنعًا وسريع البديهة وملمًا بأطروحاته عبر اللقاءات التلفزيونية القليلة. عاش أبو دهمان كما أرى صراعًا حضاريًا وفكريًا وإنسانيًا بين القرية والمدينة. رغم أنه لم يصدر إلا عملًا واحدًا (الحزام) باللغة الفرنسية حيث حمل قريته والمنطقة إلى العالم ووجدت حضورًا كبيرًا ، ثم أعاد نشره باللغة العربية". ------ د. محمد الرميحي عن أحمد أبو دهمان .. كتب لينقذ الذات من النسيان . صوت هادئ* -لم يكن من الأصوات الصاخبة التي تبحث عن حضور سريع، بل من الأصوات الهادئة التي تترك أثرها ببطء وعمق، كان كاتباً يعرف أن الأدب ليس استعراضاً لغوياً، ولا سباقاً نحو الأضواء، بل فعل وفاء للذاكرة، وإنصاف لحيوات بسيطة عاشت بعيداً عن مركز الحداثة وضجيج المدن.… كاتب انساني -لم يكن أبو دهمان كاتب قرية بالمعنى المكاني الضيق، بل كتب عن القرية وعلاقات الجماعة فيها بوصفها معنى إنسانياً شاملاً، معنى الطفولة الأولى، والانتماء الغريزي، واليقين البسيط، والخوف الأول، والذاكرة التي لا تموت مهما ابتعد الجسد أو طال المنفى… كاتب الوصل لا القطيعة -اللافت في تجربة أحمد أبو دهمان أن الكتابة بالفرنسية لم تكن قطيعة مع الذات، بل وسيلة لإنقاذها من النسيان. اللغة الأخرى وفرت مسافة تأملية سمحت بإعادة بناء الذاكرة بهدوء، وبنظرة نقدية، لا تتوفر دائماً لمن يكتب من الداخل. ولذلك جاءت روايته إنسانية في جوهرها، محلية في روحها، وصادقة في نبرتها. علاقة راقية -لم ألتقِ أحمد أبو دهمان وجهاً لوجه، لكن بيننا تواصل إنساني راقٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كان يقرأ أحياناً بعض ما أكتب، ويبعث بتعليق مقتضب، أو ملاحظة دافئة، تدل على تواضع الكاتب الحقيقي، وحرصه على الكلمة أينما وُجدت. بهذا المعنى، كان حاضراً بأدبه وأخلاقه معاً. برحيله نفقد كاتباً لم يُكثر من الإنتاج، لكنه أحسن الاختيار، وترك لنا نصاً طويلاً واحداً مميزاً يكفي ليشهد على أن الأدب الحقيقي لا يُقاس بعدد الكتب، بل بعمق الأثر. بقيت قريته حية في كتابه، ولدى قرائه القادمين، وتلك في الأدب أعلى درجات الخلود. * مقتطفات من أجواء كلمة للكاتب والمفكر الكويتي الدكتورمحمد غانم الرميحي في وداع الراحل احمد ابودهمان.