قرْية «أبو دهمان» وباريسه.
« تعدّيتِكْ لعنْت خطاي يوم إنّي تعديتِكْ تعدّيتك واحسْب خطاي قالت لكْ أنا ْعَرْفِك ولكن ماعْرف إشلون أتعذّب بك على هوْنِك يَنا مهبول أحَسْب إني تعدّيتِك» كان شارع «الستّين» في الرياض، أوائل ثمانينيات القرن الماضي، علامة ثقافية فارقة بالنسبة لجيلنا فقد نهضت في جهة منه « مكتبة دار العلوم» الشهيرة التي احتضنت طلائع الكتب الفكرية والأدبية التجديدية، وفي أحد فروعه ظهرت مكتبة «جرير» بحجم صغير، وانتشرت على نواصيه المطاعم والمكاتب الحديثة. في أحد تلك المطاعم، تعرّفت على أحمد أبو دهمان الذي جاء بصحبة الراحلين محمد علوان وعلي الدميني. كنتُ في السنة الثانية من دراستي الجامعية، أما هو فكان معيداً وفي انتظار إجراءات ابتعاثه. كان يكتب قصائد بالعامية ويحفظها ومن بينها هذه القصيدة. تلك القصائد كان تمضي على وتيرة معاكسة لما عرفناه من قصائد شعبية لشعراء ذلك الزمن، أو قصائد مغنّاة بحناجر الفنانين الكبار. تبادر تلك القصائد إلى مخاطبة الوطن أو الحبيبة أو الألم وظلالها بآلة تحفر بشفافية في طبقات هذا الألم. تسخَر قصيدته من الحب الناقص حين كانت المرأة متاعاً في المنزل، وتتبرّم من الحزن الذي يشيله الشاعر بيديه، ووسط قلبه ولا يجد من يشاركه أحزانه وأفراحه. كانت قصائده عامية في بنائها وتراكيبها لكنها ذات وقود داخلي، تخترقها السخرية، وتتشكل في صور شعرية مليئة بالحياة، وتتفجر روحها الجمالية بشكل لم نألفه في قصيدتنا العامّية في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. كان يلقي تلك القصائد في احتفالية شبه دائمة في الندوات والأمسيات الشعرية واللقاءات الخاصة وكان الأصدقاء يحفظونها لبساطتها وصورها الشعرية الصافية النافذة، لكن أحمد ولأسباب مجهولة توقف عن كتابة تلك القصائد برحيله إلى باريس. في باريس، وفي وسط شهر عسلنا، تعرفت أكثر على أحمد وعلى الصديق الآخر معجب الزهراني، وكانت جدالاتنا الفكرية تمتد ليلاً ونهاراً وتلاحقنا في المقاهي ونزهات الشوارع والحدائق العامة. لقد غيّرت باريس مجرى حياة أبو دهمان، وهو لم يكن مستعداً لتلك النقلة الكبيرة إلى عاصمة الأنوار بثقافتها وفنونها وأنماط حياتها الفريدة وقلاعها الأكاديمية. لكنه بعد ذلك غاص واندمج في ذلك المجتمع الذي لم يكن ودوداً بالضرورة تجاه الغرباء وسحناتهم، لكن ارتباطه بشريكة حياته السيدة «أنياس» الفرنسية، التي كانت طالبة ثم باحثة في أحد المعاهد ساعده على اجتياز الكثير من الحواجز النفسية والاجتماعية وربما اللغوية والأكاديمية في جامعة السوربون، وكانت سنداً حقيقياً في رحلته الحياتية والأدبية، وقلباً مفتوحاً للأقارب والأصدقاء الذين يهبطون أرض فرنسا، وتوّجا حياتهما لاحقاً بمجيء «نبيلة» درّتهما الوحيدة. في باريس تولى إدارة مكتب صحيفة «الرياض» لأكثر من عقدين، وقد عرّفته هذه الوظيفة على مجموعة من الكتاب العرب الذين هاجروا من أوطانهم واستقروا هناك، ودعى عدداً منهم للكتابة في صفحات الرياض الثقافية وفي صفحات الرأي، وأبْقته هذه العلاقة على صلة بكتّاب المملكة وبالتيارات الثقافية والأدبية التي يحتدم فيها الصراع بين التجديد والمحافظة، ومطلعاً على المتغيرات الاجتماعية التي كانت تشهدها المملكة آنذاك عبر ما تنشره الصحافة الفرنسية من مقالات وتحليلات. لقد تحول أبو دهمان بحكم علاقاته المتعددة وأريحيته الفطرية إلى علامة يسترشد بها كل معارفه وأصدقائه الذين يعبرون باريس. ولم يكن يتردد في مرافقتهم إلى متاحفها ومكتباتها ومعالمها وقصورها التاريخية وشوارعها وأسواقها الشهيرة بكل كرم ونبل نادرين. في العقود الأولى من حياته الباريسية كان مندفعاً في دراسته الأكاديمية وبدأها بإنجاز رسالة الماجستير عن القصة القصيرة في المملكة، لكن همّته تجاه إكمال شهادة الدكتوراه فتُرت كثيراً، وهذه الحلقة المفقودة من حياته لم يكن يتحدث عنها كثيراً أو يشير إليها في كتاباته او أحاديثه، أو في الحوارات التي أجريت معه لاحقاً بعد أن لمعت «الحزام» في سماء الأدب الفرنسي. في منتصف التسعينيات لم يعد الأدب شاغله الأول فقد غرق في قراءة تاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها وأساطيرها، وفي سيَر الأديان والأقوام التي عاشت على أرضها. ويلخص هذا في حديث الى «النهار»: « لا يمكن قراءة هذا العالم، ولا قراءة ما هو عربي وإسلامي دون قراءة الجزيرة العربية. ما اكتشفته خلال بحثي في تاريخ الجزيرة العربية أنها قصة عظيمة بلا تاريخ، ولم تُكتب، وليس أكثر بؤساً من شعب بلا تاريخ. إن شعباً بلا أساطير شعب يموت من البرد، ولذا علينا أن ننهض لإعادة كتابة تاريخنا». كانت مرحلة صحوة نورانية من أوهام الأيديولوجيا التي هيمنت بقوة على ساحة الحراك الثقافي والسياسي، محلياً وعربياً، ولذا بدأت محاججاته مع تلك التيارات ورموزها مؤثِراً في النهاية الخروج عليها، والتضحية بصداقات ورموز كثيرة لم يعد هناك بدّ من فراقها. كنت أشعر دائماً أن روحه معلقة بين «آل خلف» قريته التي وشمتْة بعنف، وبين باريس التي فتحت له نوافذ المعرفة المطلقة بدون حجبٍ أو حواجز. هذا التمزق رصده الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» وسهيل إدريس في «الحي اللاتيني» وغيرهما الكثير، لكن أبو دهمان ظلّ مهجوساً بقريته وعالمها وخيالاتها ولازمه هذا الشعور في أحاديثه وتذكّراته، وبما أننا أبناء قريتين تقعان في طرفي البيئة القروية ذاتها فقد كانت الذكريات المؤلمة والمفرحة والكوميدية تنهال من الطرفين بلا انقطاع. جاءت «الحزام» إذاً لتروي لديه هذا العطش الذي امتد لقرابة نصف قرن، وأراد أن يدون شظايا تلك الحياة وشهودها على هيئة نص أنستولوجي، استبطاني، تنسجه لغة شعرية كاشفة لأسرار قرية بعاداتها ومفاهيمها وطقوسها ومخاوفها ومفردات طبيعتها، وتسجّل آلية الخوف من عدوانية المدينة القريبة عبر شخصية فاصلة هي «حزام»، والتماهي بين حياة الكاتب وشخصية حزام أو التباينات بينهما هي لُحمة هذه الرواية السيرية التي انتظرها نصف قرن، وكان يعرف أن تلك القرية التي شكلت خلايا جسده مهددة بالزوال، وهكذا استعادها لتدهش قارئها عرباً وفرنسيين وعبر اللغات الأخرى. لقد بدت هذه الرواية التي احتضنتها دار «غاليمار» الشهيرة ونشرتها كما تفعل دور النشر العالمية العريقة لتكون تعويضاً رمزياً عن الخسارة المعنوية للشهادة العليا من السوربون والتي تجاهل الكلام عنها حتى وفاته. بعد الضجة التي خلفتها الحزام، بدأ بكتابة فصول من عمل أسماه: «عندما كنت سعودياً» كان متوقعاً اكتماله وصدوره ليلحق بالصدى الذي صنعته روايته الأولى، إلا أنه أصبح قليل الكلام عنه. وعند عودته المفاجئة إلى المملكة عام 2014 سألته عن الأسباب فقال: «لم أعد احتمل برد فرنسا، ولا صراعات مثقفيها، أنا مواطن شمسي، وقد عدْت من أجل الشمس والشروع في حياة جديدة حلمت بها طويلاً، كما أن لديّ عرض جيد للعمل في لجنة حقوق الإنسان بالرياض». لكنه غادرها بعد أشهر، وانقطع عن الكتابة الصحفية والأدبية، وبدأت حياته تتجه إلى المزيد من العزلة. في آخر مرة طرقت باب منزله أجابني، وينك؟ قلت له أنا قريب من «الريحان». كان قد زرع أصص الريحان أمام منزله، وكتب عنها: انه لا يحمل صورة لأمه الراحلة ولهذا يزرع الريحان..! كان ذاك لقاؤنا الأخير معه، وبعدها بشهر فجعنا برحيله. هكذا عاد أبو دهمان أخيراً إلى حضن أمه..!