(تركتُ البحر لأنني تعبت من الاتساع؛ الحزن يحتاج أحيانًا إلى حدود) اميل سيوران عندما غادر (زكي نداوي) بطل رواية “عندما تركنا الجسر” لعبد الرحمن منيف الخدمة العسكرية لم يجد ما يفعله سوى صيد البط ومصادقة كلبه وردان. كان يشعر بفراغ كبير بعد الحرب وأن ليس لديه ما يفعله فالحرب تلتهم الانسان من الداخل وتبقي داخله خواء لا يمكن إعادة ملئه بسهولة، هذا الخواء قد يقود الى فقدان المعنى للعيش وصعوبة التكيف مع حياة وسائر الناس. والسبب أنه ومن أجل تهيئة الإنسان للحرب يلزمه تغيرات داخلية على مستوى الروح والبدن والمشاعر، وعندما تنتهي الحرب او يخلع المرء البزة العسكرية يكون من الصعب عليه التحول مرة أخرى إلى نسق الإنسان العادي الذي كان , وتبدأ حينها الاضطرابات النفسية والتي تنعكس على حياته وحياة عائلته وعلاقاته في محيطه . وفي احصائيات عن الجنود الامريكيين العائدين من حرب الخليج سجل تزايد كبير في نسبة المشاكل النفسية بين الجنود وتزايد معدلات الانتحار والطلاق بما يعادل أو يتجاوز أربعة أضعاف الأشخاص العاديين، إضافة إلى اضطرابات النوم والقلق والخوف هذه الظاهرة تعرف بما يسمى ( Post-Traumatic Stress Disorder أو اضطراب ما بعد الصدمة. اتخذت من هذه القصة مدخلا لا لأني عانيت بعد مغادرتي للبحر وقلب الصفحة مما يشبه الصدمة ، لا فأنا لم أعاني أو ربما قليلا وسأشرح لكم أسباب ذلك من وجهة نظري التي قد لا تتفقون فيها معي. ولكني أتخذ من الحكاية كمدخل لأن الناس تستعذب الحكايات , و للتدليل على أن التحولات تمس حياة الانسان عند انتقاله من فضاء نحو آخر، وفضاء البحر غير فضاء اليابسة بكل حال ولكني وكما قلت لكم أن التحول أو التبدل لم يؤثر علي كثيرا لأسباب لعل منها هو أني لم أغادر البحر مباشرة وإنما عبر تدرج، وبقيت أعود إليه من خلال التمارين البحرية أو من خلال الزيارات الميدانية حتى ابتعدت عنه نهائيا، ولأنه وهذا هو الأهم وهو ما سنتحدث أو نتناقش حوله وهو أننا أمة الصحراء لا أمة البحر، وتأثيرات البحر قليلة على حياتنا ومجتمعنا وأدبنا وكتاباتنا وأسلوب عيشنا، ونحن في الغالب ندير للبحر ظهورنا إلا في حده الأدنى، وعلاقتنا معه ليست بذلك العمق. ولعل سكان سواحل الخليج العربي في زمن ما قد كانوا أكثر التصاقا بالبحر من خلال حياتهم، ومن خلال صيد اللؤلؤ، ومن خلال التجارة البحرية مع الهند وسواحل افريقيا، بل أن تجارة نجد ووسط الجزيرة العربيةً كانت تعبر وتصل عبر موانئ الخليج، العقير والقطيف ومدن أخرى، وكانت هذه الرحلات تمتد شهورا طويلة، كانت فقدا وقلقا ينعكس على حياة الناس وتأثرت به، ومن أجل ذلك تكونت حكايات السندباد وأنشدت الدانات واليامال، وكتبت اساطير البحر و: (يا خليجْ يا واهبَ اللؤلؤ، والمحار، والردى ! “ فيرجعُ الصَّدَى كأنَّـه النشيجْ: “ يَا خَلِيجْ يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى) كما قال شاكر السياب. لهذا ارتبط الانسان بالبحر رغم قسوته وغدرة وعواصفه والتي كانت تضرب مراكب صيادي اللؤلؤ والتجار وتسرق أرواحهم ومن أجل ذلك غنى المغني الشعبي محروس الهاجري أغنيته الشهيرة: “غدار أعرفك يا بحر ضحكة أمواجك تسل سيوف تطعن في الظهر تغوص في خد الخليج في شواطيك صرخة للنهاب غناته قهر خذ يا بحر كل ماتبي اللولو والمرجان والثوب الحرير كل الحلي صارت رماد فدوة لكم فدوة لعيون السندباد.. فدوة لكم يا عيون اهلي خذ يا بحر كل ما تبي بس يرجع المحبوب طول في السفر” هذا النص الذي غناه محروس الهاجري من كلمات جواد الشيخ يكشف لنا مدى تأثير البحر على حياة الناس حينها. لكن اكتشاف اللؤلؤ الزراعي قضى على رحلات الغوص ورحلات التجارة نحو موانئ الهند، وأدى اكتشاف النفط بالناس إلى أن ينكفئوا الى الداخل الى الصحراء، والوظائف والشركات، ولم يعد البحر مصدر الرزق والإلهام. وأيضا ربما الفرسانيون (سكان جزيرة فرسان) كانوا أكثر التصاقا بالبحر وانحيازا لعوالمه، قالوا عنه وفيه الكثير من الأساطير والحكايات والكسرات، وكانت حياتهم تستند كثيرا إلى غلات البحر، كالعنبر واللؤلؤ في المقام الأول، وكانوا يبحرون نحو مصائد جزر دهلك في سواحل اريتريا أو فيما كانوا يسمونه بحر حبش. هذه الرحلات والتي كانت تمد إلى ثلاثة أشهر أو أكثر كانت تسمى الجوش، وقد فصل ذلك أستاذنا الكبير شافاه الله مؤرخ فرسان الاستاذ ابراهيم مفتاح في عدة كتب منها (الصنجار والصنبوق) لذلك نشأت علاقة ارتباط بين البحر وإنسان فرسان، وكان الصيادون يستدينون من التجار ثم يسددون ديونهم بعد العودة من رحلات الغوص، وكانوا يعقدون زواجاتهم وبناء منازلهم كما كنا نفعل نحن بعد مواسم حصاد الخريف. ولأن فرسان وتهامة بالمجمل كانت فقيرة ولا قدرة لأهلها على شراء هذا اللؤلؤ والمرجان وزيت العنبر فقد كان التجار الفرسانيون يسافرون بهذا الحصاد إلى البحرين وحتى الهند، وكون بعضهم ثروات وبنى قصورا ما زال آثار بعضها حاضرا في فرسان وأنتم تعرفونها. لكنهم هم أيضا تعرضوا لخيانة الزمن واللؤلؤ الزراعي، وتقول الروايات وهي أقرب للأسطورة أنه ولصعوبة الاتصالات في ذلك الزمن لم يعرف تجار فرسان عن قصة اللؤلؤ الصناعي أو الزراعي، وأنه وعبر مزارع اللؤلؤ التي كان قد اخترعها اليابانيون أصبح من السهولة الحصول على كميات كبيرة من اللؤلؤ دون متاعب الغوص ومخاطره، ومواجهة الأنواء التي كانت تبتلع البحارة أحيانا والحظ الذي يخون دائما. وعندما وصلوا ببضاعتهم كما كانوا يفعلون كل عام لم يجدوا لها مشتر أو لم يحصلوا على السعر المعتاد. وكانت لحظة موجعة فقد تهاوت وانتهت قصة اللؤلؤ الفرساني، وعم فرسان كساد كبير وشهدت هجرات واسعة خارجها، ولم تسترد فرسان عافيتها إلا بعد أن وصلتها يد التنمية التي عمت كل مكان، وهم أيضا اتجهوا إلى الوظائف والاعمال الحرة الأكثر أمنا وضمانا من البحر، ولم يبق من عوالم البحر سوى الصيد وحكايات الحريد وقصائد تروى عن زمن الغياب. ومثل الشاعر الاحسائي الذي أعاد للبحر لؤلؤه ومرجانه من أجل عيون اهله ومحبوبه، كذلك قالت المرأة الفرسانية وعلى لسان شاعر فرسان وهي تحيا ليالي الانتظار لعودة زوجها الغائب في رحلات الغوص: “ليلي على المشراف ومطالعه لك حتى طلوع اللولين والصباح بان كل السواعي روحن وانت مالك تشتاق لك نخله وفيه وجدران هل الهلال واحنا انترجى هلالك غلق رجب واليوم في نص شعبان يكفي غياب من يوم ماغاب فالك لا الظهر لي يحلى ولا الليل لي زان شوق المرايا غاب عنه خيالك ليت المرايا تحتفظ بالذي كان”. أيها الأصدقاء بل وأكثر من هذا جازان أيضا كانت تتوسد الماء ، وكل هذا الميناء الكبير الذي تعرفونه بكل مكوناته الآن وهذه المدينة الحديثة كانت بحرا في زمن قريب , وكان الاطفال يقفزون من البيوت نحو البحر مباشرة ، وكانت (الصنابيق) تنقل البضائع من السفن البعيدة في وسط البحر إلى رصيف قريب تمشي عليه العربات والناس, أعني أننا نستطيع القول إن جازان كانت مدينة بحر ، ولكن ولظروف التنمية وظروف مدينة جازان الجيولوجية تم ردم كل هذه المساحات الكبيرة، ليبتعد البحر بعيدا بعيدا، بزرقته ونوارسه وحتى ذكرياته ، وصحيح أن كل شيء أصبح أكثر حداثة وترتيبا غير أن ذاكرة الماء اجتثت أو هذا ما أعتقد ، واصبحت جازان قريبة من الماء ولكن ليس كما كانت في الماضي تبل جدائلها فيه لتستحم وتنام . يقول غاستون باشلار (كلما ابتعدت عن البحر، شعرت أن شيئًا مني بقي هناك.) وهكذا أنا، كنت أظن أني لم أترك عنده أو لم يأخذني مني شيئا كثيرا عدا الحنين، غير أني اكتشف كل مرة أن أشياء كثيرة بقيت مني هناك، ولعل منها روح الزمالة مع الرفاق، وزمالة البحر وعندما ترافقها زمالة السلاح تغدو شيئا مقدسا، زمالة البحر تختلف لأننا كنا نتشارك معا ذات القدر ذات المصير، نأكل ذات الطعام ونتقاسم ساعات الماء ، ونواجه ذات المخاطر والتحديات و على مركب واحد، وعندما أتذكر ذلك الآن أشعر بحنين جارف نحو طيف واسع من الذكريات، البلدان التي زرناها ، الموانئ التي دخلناها ، والتمارين التي نفذنا وحتى التحديات التي وجهناها معا . وأكرر أن زمالة البحر لا شبيه لها، لأنه ما من ساعات دوام مكتبي ثم يذهب كل إلى عائلته ومنزله، في البحر لا أحد لنا سوانا أياما وأيام. ولهذا تظل مقولة فرناندو بيسو عالقة في ذهني عندما قال (البحر ليس منظرًا، بل حالة من حالات الروح.) وقال عنه البير كامو؛ (البحر يجعلني أشعر بأنني حر، وحزين، وحقيقي في آنٍ واحد) وأنا دائما أرى في البحر والرجل الحقيقي شبيهان؛ وعندما تحدق في البحر لا ترى شيئا سوى سطح أملس، لكنه مضطرب الأعماق وكذلك الرجل الحقيقي والذي لا ترى منه سوى ملامحه الساكنة غير أن في أعماقه عوالم تضطرب. ولعلي أيضا عندما غادرت فقدت ساعات الإبحار الطويلة بين الماء والسماء، والوقت المطلق الذي كان لي، وأتذكر أني قرأت في البحر من الكتب ما لن اقرأ لو لم أكن هناك، وكانت الكتب وحدها ملاذي من وحشة الزرقة وساعات الإبحار الطويلة. وفقدت سحر القمر الليلى في البحر، هناك للقمر سطوة آسرة حيث يحيل كل تلال الماء إلى فضة مذابه , وفقدت رؤية ما لا يحصى من النجوم، ملايين النجوم والمجرات والشهب لن ترى إلا في البحر أو ربما في عمق الصحراء ، وهناك حيث الشعور المطلق بفردانية وضآلة الانسان . وفقدت النجاحات التي كانت تحدث كل يوم، في الذهاب إلى البحر نجاح، وفي العودة بسلام منه نجاة ونجاح، الفوز في تدريب ما، رماية ما، ترقية ما كلها نجاحات لا تنتهي ومحفزات تصنع كل يوم ولم تعد. دعونا نعود للعنوان الذي نتحدث تحته: عندما تركت البحر، وعندما أقول هذه الجملة فذلك يعني عندما غادرت البدلة العسكرية التي تشرفت بارتدائها ما يقرب الثلاثين عاما كضابط في سلاح البحرية الملكية السعودية كانت هي زهو أيامي، وغادرتها لكنها لم ولن تغادر دمي، فمن خلالها صنعت حياتي وعوالمي وما أنا فيه الآن. غير أنه و حتى الأشياء الجميلة لها نهاياتها ، وغادرت البحر لأعود وكأني القروي والفلاح الذي لم يغادر يوما ، ولأننا نُصنع ونتشكل في طفولتنا وأنا تشكلت وعجنت من طين الأرض وزمنها الأبدي، وعندما جئت البحر جئت معجونا بالطين و مسكونا بالحنين، وبقي هذا الحنين والطين معي ويلازمني، ولم أعد قادرا على التشكل مرة أخرى كشخص آخر، شخص من أبناء البحر، بقي البحر كعمل او كوظيفة فقط وانتهت ، وأعترف أنها كانت غنية وجميلة وماتعة، لكني وعندما غادرتها كنت كمن يعود إلى البيت لا أكثر مع حنين أكثر ، حنين من نوع مختلف قلت عنه ذات يوم ؛ لقد أفنيت عمري على الماء وغرقت على الساحل، الماء اجتباني وخذلتني الموانئ الجاحدة . وتذكرت مقولة نسيت قائلها تقول: (حين تركتُ البحر، أدركتُ أن الشجاعة لم تكن في الإبحار، بل في قبول اليابسة بكل ثقلها). وكل الذي أريد قوله أن الذين يعودون من الحرب والذين يعودون من البحر والذين يعودون من الحب لا يعودون كاملين أبدا، شيء منهم من أرواحهم يبقى هناك وإلى الأبد. وأنا عدت منها جميعا، البحر والحرب والحب، وهذا كل الذي بقي مني الآن. ------- مثل أكلة جنوبية حارة وخالدة.. ككل الطيور المهاجرة لي موطن أصلي، أكتب عمن أحب ثم أعود لعمرو العامري كالمرة الأولى. هذا الرجل الذي قدم مؤخرا أمسية قل ما تجدها في هذا الزمن المنسوخ والفاضح بالذكاء الإصطناعي، قدم ورقة افتتح بها الأمسية كانت بالغة الجمال والمعنى والكشف الذاتي للإنسان، ورقة تشبه أكلة جنوبية حارة وخالدة، كان السرد والكتب و الحكايات تحيطها من كل جانب، مستعينًا بالجمال والصدق وسخرية الأقدار المريرة، استدعى عوالم البحر في الخليج وفرسان وجازان، لا بوصفها جغرافيا فقط، بل كحالةٍ روحية وثقافية تركت أثرها العميق في الناس وأغانيهم وأساطيرهم. فلم يكن يرثي البحر بقدر ما يرثي ما يُترك فينا عند الرحيل: الزمالة، والمصير الواحد، والحنين الذي لا يشيخ. كما يفتح نافذةً على فكرة أوسع: نحن – في جوهرنا – أبناء تحوّلات كبرى، وكما يقول كل عودة من البحر أو الحرب أو الحب، هي عودة ناقصة، يبقى جزء من الروح هناك وأنا عدت منها جميعا البحر والحرب والحب وهذا كل الذي بقي مني الآن. الحسن معافا