قراءة في ديوان «وصحوتُ للأحلام رائحةٌ» للشاعرة حوراء الهميلي..

إنسانية الشاعرة ـ تمرّد الأنثى.

الذي يقرأ تجربة الشاعرة حوراء الهميلي في ديوانيها ـ قبل هذا الديوان الذي نحن بصدد قراءته ـ “ظمأ أزرق 2020 م” و “تحدو ... فتُربك ريح نجد 2023 م”، سيجد أنّ الديوان الثاني كان استكمالاً بشكلٍ ما للديوان الأول، مع وعيٍ مختلفٍ تراكم عبر التجربة، واتّساعٍ في الرؤيا لا يُخطئه القارئ، وتدلّ عليه النصوص. هذا الاستكمال سواءً على مستوى البناء، من خلال القصائد العمودية... الطويلة نوعاً ما، تُجاوز الخمسين بيتاً أحياناً! يُذكر عن أبي عبيدة أنه استمع إلى رجلٍ يُنشد شعراً طوّل فيه، فكان ممّا قال له: “ألم تعلم أنّ الشعر جوهرٌ لا ينفد معدنه”، أو من خلال قصائد التفعيلة التي مالت إلى سرد الأفكار أكثر من الاشتغال اللغويّ الخاص؛ هذا بالإضافة إلى وقع القافية التي تتردد كثيراً في قصائدها التفعيلية، ويُحيلها بمنحىً ما إلى الشكل العمودي. أو على مستوى الموضوعات، على سبيل المثال: قصيدة “أغنية ما غادرت عشّ فمي ـ من ديوان “تحدو... فتُربك ربح نجد”، التي تفتتحها بـ: يُروى عن النخل أنّ الله كلمها وأنزل الوحي في هجــرٍ وألهمها هي استكمال أكثر اتّساعاً وأكثر عمقاً لقصيدة “تحرس النخلة قلبي ـ من ديوان ظمأ أزرق”. ثمّ نجد هذا الاستكمال واضحاً جليّاً لاستدعاءات الشاعرة للمرأة كرمزٍ روحيٍّ تستند إليه، وتنطلق منه، سواءً داخل النصّ، أو حتى في العتبات من عناوين واقتباسات، وإن كان هذا يظهر أكثر جلاءً في الديوان الثاني، على سبيل المثال في النصّ الذي تفتتح به الديوان الثاني “لم تخدش الريح خدّها” نجد استدعاء سعاد والخنساء وفروغ فرخذاد، وقس على ذلك. لكنّ الثيمة الأساسية التي تتّكئ عليها تجربة الديوانين الأولين هي: الأنوثة، الأنوثة كفعل تحقّقٍ وجوديٍّّ في هذا العالم، ولنحاول أن نتتبّع مفردةً واحدةً كمثالٍ على انكشافٍ أنثويٍّ فارقٍ ولافتٍ في تجربة الشاعرة، هي مفردة “الخصر”، بعرضٍ خاطفٍ يومئ ولا يشرح، تقول في “ظمأ أزرق”: ـ كفّاك طوق الياسمين برقصةٍ أينعتَ خصري والتففتَ بساقي ـ من شدّ خاصرة الحنين؟! ـ تقيس مسافة الفردوس بين النظرة الخجلى وبين الخصر والكاحلْ ـ اعتصرتُ العمر زنّاراً على خصر الأدبْ أمّا في “تحدو... فتربك ريح نجد” فتُفصح أكثر إنّما عن معنى تسعى إلى التأكيد عليه هذه المرة: ـ أشدُّ على خصري اللغات وأنثني وأعذرها لو هام بالحسن ضادُها ـ أحتاج كم قمراً في خصر خارطتي يدور حولي... ـ دلّت عذوقاً على أكتافها غَنجاً شدّت على خصرها البنيّ محزمها ـ ألفُّ بردة أشعاري على جسدي لأُطفئ التيه... ولعلّنا نلاحظ أنّ تحوّلاً أسلوبياً بدأ يتشكّل لدى حوراء شيئاً فشيئاً بوعيٍ مقصودٍ، وتريد أن تذهب به بعيداً، عن علاقة (الشاعرة ـ الأنثى) أو (الأنثى ـ الشاعرة)، من خلال “الخصر/ الأدب” و “الخصر/ اللغة” و “الخصر/ الشِّعر”، والتي سوف تبني عليه مستقبلاً في ديوانها الجديد، وليس الخصر إلا مفردة واحدة في ثيمة “الأنوثة” عند حوراء، نستطيع أن نُضيف إليه الصوت، كما سنتبيّن ذلك لاحقاً؛ لذا فالخصر عند حوراء ليس معطى جسديّاً فحسب، ولكنّه نصٌّ وجوديٌّ يؤكّد هوية هذه الروح (الأنثى ـ الشاعرة)، ويتغيّا التفاتاً ما، وإصغاءً ما، ومجازفةً ما. في ديوان “وصحوتُ للأحلام رائحةٌ” الذي صدر عام 2025 م بالشراكة بين خيمة المتنبي ودار تشكيل، يظهر الصراع جليّاً بين “الأنثى/ الشاعرة” أو “الشاعرة/ الأنثى”، وفي ظنّي أنّ حوراء الهميلي قد حسمت أمرها في أن تكون “الأنثى ـ الشاعرة”، لا “الشاعرة ـ الأنثى” هكذا قصدت، وهكذا تمّ اختيار العناوين، وهكذا تمّ اختيار الاقتباسات، كيف كان ذلك، وهل نجحت؟! هذا ما سنحاول استقراءه معاً. بدايةً من العنوان، والعنوان أحد أهم عتبات النصّ حسب جيرار جينيت، كان عنوان الديوان كما سبق وذكرنا هو “وصحوتُ للأحلام رائحةٌ”، لكنّه كُتب على غلاف الديوان هكذا: وصحوتُ للأحلام رائحةٌ كلّ كلمةٍ في سطرٍ وحدها، وكأنها تقول للقارئ: اقرأ كلّ كلمة على حدة ثم ابني عليها ما بعدها، ربما تصل إلى المعنى المقصود. فكلمة “وصحوتُ” كأنها استدراكٌ لنومٍ سابقٍ في المعنى الأوليّ، لكنها استدراكٌ لتجربة حوراء كاملة في معنى المعنى. وكلمة “للأحلام” تنبني على “وصحوتُ” وتُحيل إلى الأحلام التي يهجس بها النائم في المعنى الأوليّ، ولكنها الأحلام التي تهجس بها حوراء طوال تجربتها الشعرية. ثم نقرأ “رائحةٌ!” بعلامة التعجّب التي تسترعي الانتباه لمعنىً ما يُقال ولا يُقال، كختامٍ لهذا المشهد ـ العنوان، هل للأحلام رائحة، ومتى؟! يُحيلك العنوان بذكاء من الشاعرة إلى التجربة التي تُقدم عليها مع هذا الديوان تأسيساً على من قرأ حوراء في ديوانيها السابقين، وكأنها تُفصح من خلال العنوان عمّا ينتظر القارئ. سوف تجد رائحة حلم أنثى صَحَت! ولكي نتيّقظ لحجم الصراع بين تمرّد أنثى اختارت أن تقول كلّ شيء، وإنسانية شاعرةٍ تعيش على الأرض لا في قب الغيمة كما تقول في نصٍّ بعنوان “بياضٌ لا أُخطئ رائحته”، الرائحة أيضاً، وأيضاً! ـ أقول لكي نتيقظ لهذا الصراع، نصطدم بالنصّ الأول في الديوان، “حلمٌ يلعب الغميضة”، أجل هو حلم، لكنه حلمٌ يفيض إنسانيةً، وكأنّ إنسانية الشاعرة هنا تُقاوم تمرّد الأنثى، فتهدي النصّ “إلى طفليَّ: إلياس ورضا”: تتساقط الأحلام من جفنيهما فوق الوسادة مثلما اليرقات أجمعها بصندوقٍ زجاجيٍّ وأُمعن في التأمّل كيف للحلم التشكّل؟ وردةً نهراً وضوءًا نافذاً للروح من عينيهما؟ من علّم الأطفال أن يتحرّروا من صبغة الأجساد عبر سباحة الأجفان للأعلى؟ يتجلّى الصراع بين تمرّد الأنثى وإنسانية الشاعرة ـ في هذا التردّد الذي يظهر في كون أنها تريد أن تقول الكلام الذي لا يُقال ـ في النصّ الثاني من الديوان “سلّمٌ موسيقيٌّ في حنجرةٍ صامتة”، وتقرّر أن تمنح صوتها للآخرين: لأنّ الكلام الذي لا يُقال سيصدأ في الروح حتى ليصدر منه صريرٌ غريبٌ هنا توظّف حوراء أنوثتها عبر صوتها من أجل إنسانيتها، يقول بدر شاكر السياب في مقدمة ديوانه أساطير: “والشاعر إذا كان صادقاً في التعبير عن الحياة في كل نواحيها، فلا بدّ من أن يعبّر عن آلام المجتمع وآماله دون أن يدفعه أحدٌ إلى هذا”، وهنا تؤكد حوراء أن صوتها لمن يحتاجه، تقول: أشذَب أغصان صوتيَ في كلّ ليلٍ؛ لأني وعدتُ الرياح بأن أتهيّأ حتى أرافقها للبلاد البعيدة شاع هناك: البلاد صحت ذات يومٍ وقد فقدت فجأةً صوتها! أخرس الموت ألحانها المرهفات وتحتاج صوت الصبية؛ كي تستعيد الصدى المتحجّر في حلقها، تستعيد أهازيج نسوتها في الزفاف، تباريك جدّاتها للمواليد يوم الختان، وتحتاج صوت الصبية ..... في نصّ “في جيب راهبةٍ صُرّةٌ من قُبل”، هنا بالذات، تحاول حوراء اقتراح فضاء تتحسّس من خلاله وعبره كلّ أنوثةٍ محتملةٍ، انحيازٌ كلّي لأنثى تنكشف إزاء العالم كأنثى، أنثى فحسب! تقول: كيف أُحنّط طعم القبلة وهي تذوب على شفتي؟ بأصابع خجلى ألمسها فتدبّ الرعشة في رئتي؟ أتُعاقب ربِّ مخيلتي؟ وتقول في انكشافٍ أكثر حدّةً: الرغبة تسعر في جسدي قِطٌّ أسفل ثوبي يخمش وجهي يؤذيني تحت سرير الرغبة ويقلّبني حتى الفجر ينهش لحمي وضلوعي وأنا قنينة عطرٍ محتبسٍ في بتلتهِ رقصت في طربٍ سوسنتي لكنها في ذات النصّ المكتظّ بالرغبة المقصودة فعلاً، لا تنسى العائلة، تقول: تُنجب أطفالاً وتُغنّي ضحكاتٌ وشجارٌ يعلو والعصفور المتفرج يضحك من خلف النافذةِ ما أدفأ حضن العائلةِ! هكذا! فإنّ (الشاعرة) حتى وهي تنكشف كلّ هذا الانكشاف كـ (أنثى) تغلبها إنسانية الشعر بشكلٍ فادحٍ، وأكاد أؤكد وأقول، وعلى الرغم عنها، تقول مثلاً: لا أعلم كيف ينام الليل وطفلٌ في الحرب تخيّل أنّ قنابلهم ألعاب النار لعيد الميلاد الفائت وتقول: لا أعلم كيف ينام الليل وفي المستشفى امرأةٌ تتقطّع منها الأحشاء لتلفظ طفلاً متوفّى! وهذا المقطع بالذات عن أحشاء امرأةٍ تلفظ طفلاً متوفّى، يقودنا إلى واحدٍ من أهمّ نصوص الديوان، ذلك هو نصّ “أرحامٌ في ردهة الانتظار”، تقول في نهاية النصّ بعد أن نزلت بقدميها إلى شارعٍ قديمٍ في آخره مستوصف ورافقت هذه الفتاة عبر ذاكرتها وبيتها وزوجها وجاراتها وهواجسها ـ تقول: تريد الأمومة كي تستعيد حياةً مصادرةً تجرّب شكل الولادة، طعم المخاض تشمّ روائح خلقٍ جديدٍ وتشهد ما البعث جين يفكّك أعضاءها الموت ثم يشكّلها من جديد تحلم حوراء طوال الديوان بالقُبلة والقصيدة معاً، (الأنثى/ الشاعرة) معاً، تقتبس: “هل عشت القبلة والقصيدة معاً؟ إذن فالموت لن يأخذ منك شيئاً”، وتقول: “لا تمتحن صبري عن القُبلات” وتحلم، كأنثى: كأي فتاةٍ تُدرّب في الليل أحلامها الساهرة أُدرّب روحي على أن تزورك هي التي تزور، لا هو! وتقول: وأنت تفيض رجاءً وعطفاً وتهذي بأحلامك المستحيلة أشعر أني أحبّك أعمق مما تظنّ وأعمق مما يُطيق القدرْ ويمكن ألا أحبكَ أكثر، لو كنتَ في كل ليلٍ تُقبّلني قُبلةً واحدةْ! تنحاز للأنثى على حساب الشاعرة بأقصى ما تستطيع، أو هكذا تظنّ. تُفصح عبر مرآة الشعر، عن كينونتها كلّها، تقول: أتخيّل نفسي سيدة الأعمال الأولى بالشرق الأوسط، أجمل شاعرةٍ عبر القارات تسافر حاملةً في الكفّين حقيبة شِعرٍ بنيّةْ التاريخ تُخلّده الحسناواتُ أشطح بالأفكار قليلاً في نفسي تعلو الضحكةُ لا أصحو من سُكر خيالي إلا وأنا وسط الغيمةْ! لا تريد أن تكون شاعرةً، بل أجمل شاعرةٍ، لأنّ التاريخ تخلّده الحسناوات. تعرف حوراء أنّ الشعر أكثر خلوداً من الأنوثة لكنها... تشطح بالأفكار قليلاً! تجربة الشعر لدى حوراء الهميلي تجربة شيّقة، ومثيرة، وتحاول أن تذهب بعيداً. اختيارها لقصيدة التفعيلة بعد تقديم شاعريتها عمودياً، هذا يُحسب لها. وأعتقد أنها ستحاول التخفّف من الاقتباسات التي يكتظّ بها الديوان في المستقبل، وهي تعلم أنّ الشعر لا يبرهن بقدر ما يبصّر. لا يملك الشاعر أن يبرّر شيئاً إلا من خلال النصّ، لا خارجه. من يقرأ ديوان “وصحوتُ للأحلام رائحةٌ” يجزم أنّ حوراء وفي ذروة انحيازها لتمرّد الأنثى، تغلبها على نفسها إنسانية الشاعرة. حسب شيللي “الشعراء هم المشرّعون المجهولون للإنسانية”. وحوراء الهميلي شاعرة حقيقة تشقّ طريقاً يخصّها هي، وتُقارب الوجود كشاعرةٍ لم تنسَ أنوثتها، وكأنثى يملك الشعر كل حدسٍ فيها، فالأمر أكثر تعقيداً ممّا نظنّ!