الإنسان في مواجهة ما صنعه.
نادراً ما تتشكّل التحولات المفصلية بطريقة صاخبة. غالبًا ما تبدأ كاختلالات بسيطة في الإيقاع المعتاد، ثم تتراكم آثارها حتى يصبح الرجوع إلى ما قبلها غير ممكن. الذكاء الاصطناعي يتحرك بهذا المنطق؛ يتقدّم دون استئذان، ويعيد ترتيب مشهد العمل والمعرفة قبل أن يكتمل الوعي بحجمه الحقيقي. لفترة طويلة، كان العمل يُفهم بوصفه ممارسة مستقرة: مهارات تُكتسب، أدوار تُتقن، ومسار مهني يمكن التنبؤ بمحطاته. ومع كل تطور تقني، كان الإنسان يعيد توزيع أدواته ويواصل المسير بالمنطق ذاته. اليوم يتغيّر موقعه داخل العملية نفسها. لم يعد السؤال متعلقًا بسرعة الإنجاز، وإنما بحدود التدخل، ومسؤولية القرار، والمعنى الذي يمنحه الإنسان لما يفعل. في هذا الإطار، يبدو استثمار المملكة العربية السعودية في الذكاء الاصطناعي انعكاسًا لفهم طبيعة المرحلة المقبلة، حيث تتقدّم إدارة المعرفة، وتحليل البيانات، وبناء النماذج الذكية بوصفها عناصر حاسمة في التنافس. العالم يتحرك في اتجاه تتراجع فيه قيمة الامتلاك التقليدي أمام القدرة على التكيّف وصناعة القرار في زمن متغير. التغيّر الأوضح يظهر في المهن المعرفية. في البرمجة، تغيّر توزيع الجهد؛ انتقل التركيز من كتابة الكود إلى بناء المنطق، ومن التنفيذ إلى التفكير في البنية والاختيارات الممكنة. يمكن قراءة هذا التحول ضمن مسار أوسع لتطوّر وعي الإنسان نفسه. فكما توسّع إدراكه للعالم من الملاحظة إلى التدخل، وأصبح يتعامل مع ظواهر كانت تُعد يومًا ما خارج نطاق تأثيره، كإدارة الموارد، وتحسين الزراعة، وتقنيات الاستمطار، ينتقل اليوم إلى التدخل في أنظمة كان دوره فيها سابقًا محصورًا في التنفيذ. في هذا السياق، لا يعني تسليم جانب من البرمجة للآلة تراجع الدور الإنساني، وإنما إعادة تموضعه. الإنسان ينتقل من أداء المهمة إلى تصميم منطقها، ومن كتابة التعليمات إلى وضع الإطار الذي تعمل داخله. اتساع مجال التدخل هذا يضاعف المسؤولية، لأن أثر القرار يصبح أعمق، ونتائجه أبعد مدى. في التحرير والكتابة، تغيّر مسار الإنتاج. النص لم يعد نتاج عزلة فردية، وإنما عملية مراجعة مستمرة للمعنى والسياق والنبرة. وفي الإخراج والمونتاج والتصميم، تقلّص الزمن بين الفكرة والنتيجة، وتبدّل موقع الإنسان داخل العملية الإبداعية من صانع مباشر إلى عقل يختار ويقوّم ويوجّه. ما يتراجع هنا صورة قديمة للعمل، لا قيمته. هذا الواقع يضع مفهوم المهارة نفسه موضع مراجعة. حين يصبح التنفيذ متاحًا وسريعًا، تنتقل القيمة إلى ما يسبق الفعل وما يليه: القدرة على التمييز، وربط العناصر، وفهم الأثر. الخبرة ما تزال مهمة، لكنها لم تعد تُقاس بحجم ما يُنجز فقط، وإنما بعمق ما يُفهم، ودقة ما يُستبعد، وحكمة ما يُقرّر. سوق العمل يعكس هذا التحول بصمت. أدوار تفقد مركزيتها دون إعلان، وأخرى تتشكل قبل أن تستقر مسمياتها. الإرباك لا يأتي من نقص الفرص، وإنما من تغيّر شروطها. من يتمسّك بتعريف جامد لمهنته، يجد نفسه خارج السياق حتى وهو ما يزال يؤدي المهام ذاتها. على مستوى الشركات، يكشف التعامل السطحي مع الذكاء الاصطناعي عن تردد في إعادة التفكير أكثر مما يكشف عن نقص في الإمكانيات. الاستثمار الحقيقي يبدأ من مراجعة نماذج العمل، والعلاقة بين الإنسان والنظام، وحدود التفويض، ومعنى الإنتاج في بيئة تتسارع فيها القرارات. التأجيل لا يحافظ على الاستقرار، لكنه يراكم كلفة يصعب تعويضها لاحقًا. أما الأفراد، فهم أمام اختبار هادئ لكنه حاسم. للخبرة قيمتها المستمرة، لكنها تفقد ضمانتها بوصفها عنصرًا وحيدًا. المطلوب وعي بالتحول، واستعداد للتعلّم المستمر، وقدرة على التعامل مع أدوات تتغير أسرع من المسميات الوظيفية. من يدرك أن اتساع قدرته على التدخل يستدعي اتساعًا موازياً في تحمّل المسؤولية، يملك فرصة إعادة تعريف موقعه بدل الدفاع عنه. الذكاء الاصطناعي لا يفرض سؤالًا تقنيًا، بقدر ما يعيد فتح سؤال قديم حول الإنسان ودوره. كلما توسّعت أدواته، اتسعت دائرة أثره، وتقدّم معنى القرار على سرعة التنفيذ. وفي زمن تتسارع فيه الإمكانيات، يبقى التحدي الحقيقي في الحفاظ على المعنى، واتخاذ قرار واعٍ في عالم لم يعد يمنح رفاهية اليقين الكامل.