قراءة في رواية (الحزام) للأديب الراحل أحمد أبو دهمان..

ريادة متقدّمة ورؤية حضارية و خطاب سرديّ جماليّ ولغة شعرية متوههِّجة

لم يكن الاهتمام الواسع بهذا العمل الروائي الوحيد للأديب الراحل (أحمد أبو دهمان) ليأتي من فراغ بل لأهيته البالغه كونه كتب أولا بالفرنسية و ترجم بقلم صاحبه ثانية فهو ذو طابع مزدوج الدلالة ، وهو عمل له علاقة وطيدة بالهوية و الثقافة و التحوّل و التطور ثانياً وهو ذوجماليات متميزة في البناء السردي والصياغة اللغوية ثالثاً. صدرت الرواية أولاً باللغة الفرنسية عام 2000 عن( دار غاليمار) الشهيرة (إحدى أكبر دور النشر في فرنسا) ونالت اهتماماً وافراً من النّقاد والإعلاميين، وهي من الروايات العربية التي تلامس إشكالية ثقافية حضارية ناجمة عن التماس بين الشرق و الغرب عبر تجربة الابتعاث التي نشطت منذ بدايات النهضة العربية وتناولتها أعمال سردية مهمة لطه حسين في (الأيام) وتوفيق الحكيم في (عصفور من الشرق) و(سجن العمر) والطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال )وسهيل إدريس في (الحي اللاتيني) ورينيه حايك في (أيام باريس) وميرال الطحاوي في (بروكلين هايتس) وحوراء النداوي في (سماء كوبنهاجن) ورواية (بدوي في اسكتلندا) لمؤلفها عقيل محسن العنزي وغيرها وقد حقّقت رواية الحزام نجاحاً كبيراً، طبعت عدة طبعات، وترجمت إلى عدة لغات (منها العربية) بقلم صاحبها مما جعل انتماءها إلى الرواية العربية أصيلا ، يختلف عن الروايات التي ألّفها أصحابها بلغات أجنبية ثم ترجمت إلى العربية ، مثل الروايات التي ألفها كتاب جزائريون ومغاربة بالفرنسية وترجمها آخرون إلى العربية فظلّ انتماؤها إلى اللغة التي كتبت بها أوثق، فضلاّ عن ترجمات أخرى تصل إلى ثماني لغات. وتعدُّ أول رواية سعودية تُكتب مباشرة بالفرنسية وتنشر في دار نشر عالمية كبرى وليس من شك في أنها تنتمي إلى االرواية المستلهمة من السيرة الذاتية ، ومثل هذا النوع من الروايات يلامس إشكاليات كبرى حضارية كالاغتراب المكاني و النفسي و الثقافي ويقارب العلاقة بين الشرق و الغرب و الحداثة و التقليد و ما إلى ذلك من مسائل تتعلق بالهوية والوطنية ، فالرواية مستوحاة من طفولة الكاتب في قريته بجنوب السعودية، حيث يصف الحياة التقليدية، والعادات القبلية، والطبيعة الجبلية بأسلوب شعري . واسم حزام يحمل دلالة ثرية ف”حزام” (رمزياً يشير إلى شيخ القبيلة والرابط بين التقليد والحداثة) وما يمكن أن يلامس النظام الأبوي أو ما يسمونه (البطريركي ) ويمزج بين الواقع والخيال، مع لمسات شعرية ووصف للحياة في جبال عسير حيث “يصعد المطر إلى السماء” كما يقول مؤلفها في تعبير ثري الدلالة . وتعد رواية الحزام انطلاقة حملت الكاتب على جناح الشهرة ؛فإرثه الروائي يرتبط بشكل أساسي بهذه الرواية التي أثارت اهتماماً نقدياً واسعاً وأدت إلى زيارة العديد من الفرنسيين للمناطق الموصوفة فيها، وشأنه في ذلك شأن الروائي الكولومبي (جارثيا ماركيز) في روايته الشهيرة (مئة يوم من العزلة) ومحمد شكري في رواية (الخبز الحافي) ومحمد زغزاف في رواية (محاولة عيش) وصموئيل شمعون في رواية (عراقي في باريس) وفي الآداب الغربية أيضا غرنست همنجواي (العجوز و البحر). وهذه الرواية ذات أهمية خاصة بما حفلت به من محتوىً يشعّ برؤية كاشفة وتقنية عالية ثرية بالوصف، يتقاطع فيها الواقع والخيال، مستوحاة من طفولة الكاتب في قرية (آل خلف) بمنطقة عسير جنوب السعودية. بؤرة الرواية ومنطلق السرد فيها يبدأ بضمير المتكلم من منظور الراوي (الذي يتقمّّصه الكاتب) الذي يعيش (في فرنسا) تعود به الذاكرة إلى أيام الطفولة التي قضاها في قريته النائية في قمة الجبل، في تقنية سردية بسيطة الحبكة تعتمد على الانثيالات التي تتداعى على نحو يبدو تلقائياً، مع لمسات شعريّة متوهّجة تجعل النّص قصيدةً موقّّعة، لا تخلو من نزعة درامية ولكنها محدودة عفويّة تنبثق من التأملات الهادئة في سياق إنساني توّاق إلى البساطة الهادئة و التأمل العميق. يوحي العنوان على بساطته وسمته الشعبيّة بمعان رمزية وإيحاءات دلالية إلى الى الجذر المعجمي الذي يشي بالحزم والصلابة و القوة و السيطرة ، ويذكرنا بمقولة ميشيل فوكو عن ارتباط الخطاب بالسلطة ف”حزام”، الشخصية المحورية، الذي هو شيخ القبيلة وجدّ الراوي، ويمثل مرحلة تاريخية بخصائصها الحضارية وثقافتها السائدة و مستشرفاً ملامح التحوّل التي تشي بالتغير في حسرة مريرة تفضي بها مقولته التي يوجّهها إلى حفيده . في النهاية، يكشف أن “حزام” هو اسم الجد نفسه، الذي يورث حفيده ذاكرة القرية وروحها، قائلاً بمرارة: “لقد ولّى ذلك الزمان البهيّ، ولم يعد من أحد سواي يحمل روح القرية ويقينها، لكنّي بدوري سأموت، وليس بعدي سواك يا روحي ويقيني”. الرواية توثّق الحياة القروية في جبال عسير، حيث “يصعد المطر إلى السماء” بدلاً من أن ينزل، و”يولد الأطفال مبللين بالغناء” في تعبير مجازيٍّ بليغ، فالطبيعة متداخلة مع الحياة البشرية: الجبال، السماء، الأمطار، والليالي المليئة بالنجوم والأغاني الشعبية. أما فيما يتعلق بالشخصيات في الرواية، فالطفولة السمة الأولى للبطل الذي يرتقي في مدارجها، في موازاة النمو الطبيعي الخطّي في السيرة الذاتية يتميّز بالفرادة والموهبة التي تلامس سقف الفلسفة في اندهاشه لدى اصطدامه بفضاء الوجود ، الذي يتلمس طريقه عبره في محاولة لاكتشافه و التعرف على أسراره وخفاياه ،حريصاً على اختزانه في وعيه اليقظ ، وهو سليل الجد تلك الشخصية البطريركية التي تلامس سقف ابطال الأساطير في جمعه بين سطوة السلطان ومنظق الحكيم الحريص على ملامح التميّز الموروث خوفاً من طواريء التهجين الذي يحمله المدنية الزاحفة بلا هوادة. أما الأم فهي حاضنة الأصالة وربة الحنان وبطلة الفداء التي تؤثر على نفسها، وأما بقية أفراد العائلة فهم الحاشية التي تحف بهؤلاء الرموز وتستكمل المشهد بكل عناصره و أركانه على نحو عفوي لا تكلف فيه. وجوهر الرؤية الحسّ الاغترابي في ظل االشعور بالبعد المكاني و ما يولّده من حسٍّ طاغٍ بالحنين الى الجذور . وأما الاحتفاء بالمرأة فهو يأتي في صورة ناصعة تعلي من قدرها عبر منطق الأ سطورة التي ترى في صبايا الريف غاية الصفاء و البهاء . والتوحُّد في الطبيعة و الفناء فيها فيبدو قي غاية الوضوح في تناغم وجداني وصفاء روحي صوفيٍّ يغتسل بنقاء المطر، وتراسل الظواهر الكونية و الطبيعي في استذكار متواصل مع الأشياء و الأحياء ، والحفاوة بالفنون والثقافة في تجذّرها في تراث القرية وانسجامها مع الروح القروية البكر، أما لغة الرواية فبسيطة لها نكهة الشعر ومذاق السرد ودقة الوصف،و رهافة الحس و شاعرية الوجد، يحفل بلقطات مشهدية رهيفة وألوان شفيفة مستقاة من جمال الطبيعة وصفاء الكون ، وهي – كما يرى نقّادها - ليست رواية تقليدية بالمعنى الدرامي، بل تأمل فلسفي وشعري في الوجود، يشبه أعمالاً مثل روايات محمد البساطي ولمسات من الواقعية السحرية عند روائيي أمريكا اللاتينية ، وفي لغته شفافية رهيفة تتجلّى في قوله “نحن جميعاً شعراء، قالت أمي: الأشجار، النباتات، الزهور، الصخور، الماء... إذا استمعت جيداً إلى الأشياء، يمكنك سماعها تغني.” ومن المعروف أن الحزام في العرف السائد في الأوساط الشعبية في البادية العربية والريف رمزا اجتماعيا تكتمل فيه الهيبة، ويعدّ مظهراً من مظاهر الرجولة والسيادة، ويوحي بأصالة الانتماء للثقافة السائدة في تلك الأوساط، ولهذا كان اختيار الكاتب هذا الاسم للجد الذي يمثل وطيد العلاقة بين زمن يوشك على الغروب وآخر آتٍ يُطلُّ من جهة الغرب ملتقياً بذلك مع سابق النتاج الروائي العربي الذي جسّّد هذه النُّقلة الحضارية التاريخية،بما يوحي به من الحزم والصرامة ،ميثاقٌ يؤكد الوحدة المبتغاة اجتماعياً وتاريخيّاً و قيميّاً ، ولعل في اختيار هذه المفردة مفتاح الرؤيا في هذه الرواية ، خصوصا وأنَّها كُتبت في مُغترَب مكانيٍّ وثقافيٍّ أراد به الكاتب أن يؤكد قوة الانتماء والاستعصاء على التغريب و الانفلات من الميثاق الذي يعصمه من الوقوع في أسر المغريات المادية التي يواجهها في تناقضها مع مبادئه وثقافته وقيمه . أما التبئير في الرواية فيتأسّس على التعدديّة الضمنية الكامنة ، وما ينبني عليها من امتياح من الذاكرة الجماعية وتفاصيل هويتها و ثقافتها، حيث ينهض السرد على ديناميّة توفّر انفتاح التجربة الذاتيّة على السياقات التي تنتظم ثقافة المجتمع وتراثه مرتبطةً بالذاكرة الجمعية، فيأتي السرد على نمط التناوب بين النسق التاريخي والبوح الذاتين والتوثيق لمراحل تطوّر تحوّلات التقاليد و العادات والفلكلور الشعبي في الفضاء الجغرافي بتأثير العوامل الناجمة عن العولمة ، وما نتج عنها من شيوع مناخٍ جدليٍّ حول الحداثة وأثرها على الصعيد المحلي و العالمي ووعلى النظام الأبوي في المجتمع لقد توفّرت دراسات عديدة على هذه الرواية ؛ وهذه المقالة في جوهرها تنويه بمكانة صاحبها وريادته المقدّرة للكتابة عن فضاء عربي أصيل في المملكة العربية السعودية بلغة فرنسيّة موجهة إلى جمهور أجنبي تعبيراً عن الثراء الفني والفكري الذي تتميز بها قريحته (رحمه الله و أسكنه فسيح جناته)