بيوت ديسمبر.. البحث عن الدفء في نهايات لا تنتهي.
حالة من الهدوء و السلام تحل على مختلف مظاهر الحياة في ديسمبر، فالطقس ينخفض، و الشوارع تسكن، و النفوس تطمئن. يغلق حينها كل قاطني البيوت في جميع أرجاء العالم أبوابهم مبكراً بحثاً عن ركن هادئ و كوب دافئ، هرباً من برودة الطقس و بحثاً عن مساحة لالتقاط أنفاسهم في نهاية سنة قد مضت من سنين عمرهم. ارتبط ديسمبر بمفاهيم النهايات، بالوصول إلى النقطة التي توضع في آخر السطر، ليس لأن الحكاية قد انتهت، بل لإتاحة الفرصة للعودة إلى الذات و مراجعة الحسابات قبل كتابة أول سطر في الصفحة الجديدة. في هذا الشهر، يخف الضجيج الخارجي و يعلو صوت لربما قد تم إهماله و لو قليلاً في الشهور الماضية، صوت يقرأ ما مر بنا خلال عام قد مضى و يحمل معه العديد من التساؤلات: من نحن؟ و من أصبحنا؟ و متى غيرتنا الحياة بلا سابق إنذار؟ و ماذا نريد من أنفسنا في العام القادم؟ تساؤلات قد لا تتطلب إجابات فورية، لكنها تكتفي و ترضى بمجرد استحضارها في عقولنا بكل صدق و شفافية. لا داعي لإنجازات خارقة أو ضغوط و أهداف مكررة اعتدنا سماعها، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بالتوقف لكن بوعي، توقف يتبعه متابعة للقادم من حياتنا لكن بخيارات تناسب المرحلة التي نعبرها، لحظة صمت أعد بها نفسي بأني لن أعيد الكرة من جديد و أكتب سطوراً أخرى في مسيرة حياتي قبل أن أتيقن أين انتهيت. ديسمبر هو شهر العودة، ليس فقط إلى أمان و دفء المنازل، بل إلى بيوت أخرى نطرق فيها أبواب أرواحنا، بيوت قد تكون غير مرئية، لكنها مألوفة جداً. هذه البيوت نسكنها و تسكننا في كل لحظات حياتنا، لكن قيمتها لا يدركها إلا من منح نفسه التقدير الخالص و المحبة التامة. بيوت ديسمبر عديدة، فبيت يضم الذكريات، و آخر يحتضن الآمال، و ثالث يحمل مشاعر الامتنان و غيرهم الكثير. نحن لا نعيش طوال العام في بيت واحد من هذه البيوت، فالإنسان لا يعيش حالة شعورية واحدة فقط حتى في اليوم ذاته، لذلك، لكل بيت شعور خاص و طابع مميز، لكن ديسمبر فرصة لطرق أبواب جميع هذه البيوت و زيارتها و إعادة ترتيبها، لتصبح في أتم الاستعداد لاستقبالنا مجدداً في العام التالي و هي و نحن في أحسن حال. نغادر هذه البيوت و نحن مطمئنين بأنها ستبقى متواجدة و مشرعة أبوابها لنا. نحن غير ملزمين بالبقاء في بيوت ديسمبر طويلاً، نحن نمر بها بهدوء لنفهمها، لا لنكون أسرى لها. فمن أدرك قيمة ذاته و أحبها أعطاها حقها، و هذا الحق لا يتطلب إغراقها في الذاكرة، أو إرهاقها بالتخطيط، أو تعليقها بالأحلام، بل يتطلب اللطف بها لتقوى و تزهر. بيت الذاكرة قد يكون أول البيوت التي نزورها في ديسمبر و من دون تخطيط. لا نبحث في هذا البيت عن الماضي بدافع الحنين فقط، بل بدافع الفهم. نتعلم في هذا البيت بأن ليس لكل ذكرى صلاحية التواجد في عقولنا و قلوبنا إلى الأبد، فبعضها يحتاج إلى أن يعاد إلى مكانه الصحيح. بعض الذكريات النقية نشعر بالفخر بحملها معنا بكل محبة طوال عمرنا، و البعض الآخر يكفينا أن نتركه بهدوء. فشتان بين ذكرى صافية تسكن أرواحنا ما حيينا، و أخرى كانت عبئاً تستحق و بجدارة أن تترك خلفنا في طيات النسيان. لا نمكث طويلاً في بيت الذاكرة، فطول البقاء ما هو إلا مساحة للاستنزاف، و الماضي يزار و لا يُسكن. أما في بيت الأحلام، نتعرف على ما تريده أنفسنا حقاً، و الأهم أن نفرق فيه بين تلك الأحلام التي تستهوينا و تعكس رغباتنا الشخصية و تحقق معاني السعادة لدينا، و بين تلك التي تعكس رغبات و توقعات الآخرين و التي لا تستحق أن تشاركنا هذا البيت. يمنح هذا البيت مساحة لصوت خافق أن يظهر، صوت يدعونا لوضع المخططات بكل اتساع، و للتخيل بكل شجاعة. هذا البيت قائم على مزيج من الأحلام التي لا سقف لها و من المخططات التي تتسم أكثر بالعقلانية، و المعادلة الرابحة في الحياة هي تلك التي توازن بين الأمرين. و في بيت الوداع نودع ما لم يعد صالحاً لنا من عادات و طباع و علاقات. نودع أموراً بنفس واعية و قلب مدرك لما يناسبه، لنكمل حياتنا بقلب أكثر خفة و روح أكثر انشراح. نودع كل ما لا يتناسب مع تطلعاتنا في الحياة و كل ما لا يتناغم مع ما تستحقه أرواحنا من إخلاص و وفاء و عطاء. هذا الوداع لا عودة تليه و لا حسرة بعده، فالإنسان التقي النقي يُخسر و لا يَخسر. أخيراً و ليس آخراً، أحن بيت يستحق الزيارة في ديسمبر هو بيت الامتنان، نزور فيه العديد من النعم التي اعتدنا تواجدها و لربما نسينا شكرها، و نحمد الله على ما نحن عليه. بيت بسيط لكنه الأدفأ، يذكرنا بأهمية الرضا و التسليم، و بأن الرحلة أهم من الوجهة. ديسمبر ليس للاستقرار في بيت واحد، ففيه نزور أيضاً بيت النوايا، و بيت الأمل، و بيت الصمت، و غيرها الكثير من البيوت التي ترتبنا من الداخل قبل أن نرتبها، و ستستضيفنا بكل ترحاب في العام القادم. لذلك، واجبنا أن نحسن إلى هذه البيوت لترد إلينا هذا الإحسان في القادم من أيامنا، عندما نبحث مجدداً عن الدفء في نهايات لا تنتهي.