سمير عطا الله.. كاتبُ الزمن الطويل (!)
ليس سهلاً أن يكتب كاتب عمود صحافيّ يومياً لما يقارب أربعة عقود، وأن يبقى النص محتفظاً بدفئه الأنيق، وفضوله، وقدرته على الدهشة. الأصعب من ذلك أن ينجو من فخّ التكرار، وأن لا يتحول إلى صدى لصوته القديم. هنا، تحديداً، تقف تجربة سمير عطا الله بوصفها حالة خاصة في الصحافة العربية، لا لأنها الأطول عمراً فحسب، بل لأنها الأكثر قدرة على التحول الهادئ، دون استعراض، ودون ادعاء القطيعة مع الماضي. منذ أواخر الثمانينات، صار عموده في «الشرق الأوسط» جزءاً من صباح القارئ العربي. لم يكن عمود رأي تقليدياً، ولا تعليقاً سياسياً مباشراً، بل مساحة مفتوحة يلتقي فيها التاريخ بالأدب، والسياسة بالإنسان، والخبر بسؤال المعنى. لم يكتب عطا الله الحدث كما هو، بل كما يمكن أن يُفهم بعد أن تهدأ العناوين، وتبتعد الكاميرات. ما يلفت في هذه التجربة الطويلة أنها لم تعتمد على الصخب، ولا على المواقف الحادة، بل على معرفة عميقة بالعالم، وبطبائع السلطة، وبسلوك البشر حين يمسكون بمقاليد القرار. علاقة سمير عطا الله برؤساء وزعماء وملوك ورجال دولة لم تكن علاقة اقتراب من النفوذ، بقدر ما كانت ثمرة فضول معرفي، ومراقبة طويلة لآليات الحكم، وأثر الأفكار في صناعة التاريخ. لذلك، حين يكتب عن السياسة، لا يكتبها من الخارج، ولا من برج عاجي، بل من مسافة ذكية تسمح له بالرؤية دون الوقوع في أسر التفاصيل. ودائماً ما يُطرح سؤال الكاتب الأوّل، لكن تجربة سمير عطا الله لا تُقاس بالمقارنة ولا بالتصنيفات. هو الأوّل هنا لأنه بقي، ولأن نصّه نجا من التكرار، واحتفظ بقدرته على الإقناع والمتعة معاً. ليس لقباً احتفالياً، بل خلاصة زمن طويل من الكتابة التي تعرف كيف تتقدّم، وكيف تبقى. في تجربته اللبنانية المبكرة، خصوصاً في «النهار» وصحف بيروت الكبرى، تشكّل وعيه الأول بالكتابة بوصفها مسؤولية ثقافية قبل أن تكون مهنة. بيروت، في تلك المرحلة، لم تكن مدينة صحف فقط، بل مختبراً للأفكار، ومنصة لتلاقح الاتجاهات، وساحة مفتوحة للجدل. هناك تعلّم عطا الله أن العمود ليس مساحة للانفعال، بل أداة للفهم، وأن اللغة ليست زينة، بل طريق مختصر إلى الفكرة. ثم جاءت سنوات الترحال: الكويت، لندن، باريس، الأمم المتحدة، وواشنطن. عواصم مختلفة، لكنها أضافت جميعها طبقة جديدة إلى صوته الكتابي. لم يعد يكتب بعين واحدة، بل بعينين: واحدة ترى الشرق بتعقيداته، وأخرى ترى العالم من زاوية أوسع. هذه الثنائية هي ما منح نصوصه ذلك التوازن النادر بين المحلية والكونية. من يقرأ سمير عطا الله يلاحظ سريعاً ولعه بالأسماء الروسية، بالتاريخ الأوروبي، وبالشخصيات التي صنعت القرن العشرين. ليس ذلك ترفاً ثقافياً، ولا استعراض معرفة، بل جزء من طريقته في تفسير الحاضر عبر الماضي. روسيا، أوروبا الشرقية، الحروب الباردة، الزعماء الذين مروا وتركوا ظلالهم الثقيلة.. كلها عناصر حاضرة في نصه، لأنها تساعده على قراءة العالم بوصفه سلسلة مترابطة، لا أحداثاً منفصلة. لغته، في المقابل، لا تشبه هذا الثقل المعرفي. هي لغة واضحة، مشذبة، تميل إلى الاختصار دون أن تُخلّ بالمعنى. لا يثق عطا الله بالجمل المتورمة، ولا بالأفكار التي تحتاج إلى شروح طويلة. يعرف أن القارئ الذكي لا يحتاج إلى وصاية، بل إلى مفتاح. لذلك تأتي مقالاته كأنها إشارات ذكية، تفتح الباب وتترك للقارئ متعة الاكتشاف. في حوار سابق جمعني به، بدا واضحاً أنه لا ينظر إلى الكتابة بوصفها بطولة شخصية، بل ممارسة يومية شاقة، تتطلب انضباطاً، وفضولاً دائماً، وقدرة على الشك في الأفكار الجاهزة. لم يكن معنياً بالحديث عن نفسه بقدر ما كان مشغولاً بالحديث عن العالم، عن تغيراته، وعن ذلك القلق الذي يصيب السياسة حين تنفصل عن الثقافة. ولعل أكثر ما يميّز تجربته هو هذا الإصرار المتّزن على الاستمرار. أربعون عاماً تقريباً من الكتابة اليومية ليست رقماً عادياً في مهنة تستهلك أصحابها بسرعة. كثيرون بدأوا معه، أو بعده بقليل، ثم غابوا. بعضهم اختفى بصمت، وبعضهم استنفد أدواته، وبعضهم لم يحتمل تغير الأزمنة. وحده تقريباً ظل يكتب، وكأن الزمن يعمل لديه، لا ضدّه. ليس سمير عطا الله كاتب مرحلة، ولا ابن لحظة سياسية بعينها. هو كاتب الزمن الطويل، الذي يفهم أن الأفكار لا تُقاس بسرعة انتشارها، بل بقدرتها على البقاء. لذلك لا يبدو قلقاً من التحولات الرقمية، ولا من تبدل أذواق القراء، لأنه يعرف أن النصّ الجيّد يعرف طريقه دائماً، مهما تغيرت الوسائط. الكتابة عنه اليوم ليست محاولة لاستعادة سيرة، ولا احتفاءً نوستالجيّاً بجيل مضى، بل قراءة لتجربة ما زالت حيّة، تتفاعل مع العالم، وتراقبه، وتكتب عنه دون ادعاء امتلاك الحقيقة. في زمن تعلو فيه الأصوات، وتتنافس فيه المنصات على الانتباه، يختار سمير عطا الله أن يكتب على مهل، وأن يترك للجملة أن تقوم بعملها. ربما لهذا السبب بالذات، لا يزال عموده يُقرأ. لا لأنه الأعلى صوتاً، بل لأنه الأكثر اتزاناً. لا لأنه يلاحق الحدث، بل لأنه يفهم ما وراءه. وهنا، تكمن قيمة هذه التجربة: في قدرتها على أن تكون مرآة هادئة لعالم مضطرب، وقارئة ذكية لتاريخ لم ينته بعد! (*) كاتب وصحافي سعودي