بعد ثلاثة دواوين شعرية صدر للشاعرة فاطمة الشهري المعروفة بـ (شعاع الثريا) هذا العام 2025 ديوانها الرابع (زائر الدجى) عن مجموعة تكوين المتحدة. يقع الديوان في مائتي صفحة، ويضم خمسا وتسعين قصيدة كلها من العمودي ما عدا قصيدة واحدة من شعر التفعيلة. وهذا دليل على أن شاعرتنا ما زالت كما كانت في دواوينها السابقة شديدة الولاء للقصيدة العربية الأصيلة، ذات المفردة الجزلة والبناء المتقن والقوافي المطلقة والتصريع في معظم قصائد الديوان، حتى في بحورها الشعرية لم تتجاوز ما أكثر منه الشعراء المتقدمون؛ البسيط والطويل والكامل والوافر والمتقارب، ولم تستخدم من المجزوءات سوى مجزوئي الوافر والكامل. والشعر عند الشهري ليس تعبيرا عن خلجات النفس أو تسليتها فحسب، بل إنها تكتبه ليستشفي به من يحتاج الشفاء من عناء الحياة. تقول في مقدمة ديوانها: “يستنقذ به الشاعر والمتلقي نفسه من هوة اليأس، ويخفف به وطأة الألم، ويواسي به قلبه مما يعتريه من مواجع الفقد والبعد والاغتراب”. وقد لخصت وظيفة الشعر في البيت التالي: نُواسي بهذا الشعر كل مُتَيَّم يُحاصرُه في الحب جَوْرُ الخلائقِ ولعل هذا الغرض العلاجي في شعر فاطمة وراء اختفاء القصائد الطويلة، فمعظم قصائدها مقطوعات وقصائد قصيرة لا تتجاوز ستة عشر بيتا إلا فيما ندر، فالعلاج غير الغذاء يُكتفى منه بما يؤدي الغرض. في قصيدة بعنوان (أمنيات) تعترف الشاعرة بأن طول الفراق ينسينا حفظ العهد، وأن قسوة الترحال تخفي الحنين: تُغيِّــرنا الأيــام رغــم ادعــائنا بأنَّّا نفي بالعهــد من لا يُواصــلُ فمن قسوة الترحال باتتْ قلوبنا عن البوح عن ذكر الحنين تماطل فيا ليت أن الدهــر يحنو وليتها تعــود إلــى تلــك الديــار قوافــل وتلح على هذا المعنى في قصيدة أخرى بعنوان (وصية راحل)، فتقول إن الرحيل، وما يتبعه من شوق يُخرج المرء عن صوابه: دعينــــي يـــا مُحَدثَتي فإني رفيق الصمت مذ أعلنت عهدي فقـد عاهدت أحبابـي بـــاني سأبقى بالوفـاء بـرغـم بعــــدي ولكن الرحيل كـوى فـؤادي وأدمــي خافقي وأثــار وجــدي وأسكنني قفار الشـوق حتى نسيــت تجلدي وفقدت رشـدي ومما يسترعي الانتباه قولها (فإني رفيق الصمت) ومثله من القصيدة نفسها (فإني قاطن) فهي تكتب بلسان المذكر، فتذكرني بالشاعرة عائشة التيمورية التي كتبت ديوانها كله على لسان رجل، بسبب عدم تقبل عصرها لشعر المرأة، لا سيما الوجداني منه. وفي قصيدة (ثوب الرماد) تتحدث عن أثر الريح في البلاد التي تمر بها، وهي ترمز للعواصف التي تكتسح النفس فتبدد أمانيها: لم تتركِ الريـحُ لا نخْــلا ولا سَــعَفا ولا حروفا على الألواح أو صحفا قد عَرَّتِ الجمرَ من ثوب الرماد فما يلقى من الموت لا سـترا ولا لحفا أتتْ على كل ما قــد كان مــن أمـل وبَدَّدَتْ مِن أمـاني النفس ما سـلفا ولا تخرج قصيدة (غصون القصائد) عن (ثيمة) الديوان وهي الغياب ولوازمه. تقول شاعرتنا في مفتتح القصيدة: يـــا ســيدي آن الأوانُ لِتَعْــرِفَــا أن المسافر في الغياب تطرّفا يا سيدي مالت غُصُونُ قصائدي هلَّا ســألتَ الريحَ ألا تَعْصِـفا هلا ســألتَ الليـل حيــن يُعيــدُنَا نحو الحنين بأن يَرِقَّ ويَعْطِفا وشاعرتنا تعتز بالشعر وتعده نعمة تستحق الشكر، فتفتتح قصيدتها (عذب المجازات) بقولها: لك الحمــد يا مولاي أنّي أُسَــطِّرُ حروفا بها الأرواحُ تَسْلُو وَتَذْكُرُ لك الحمد أن أهديت قلبيَ جُرْعةً من الشعر عن كُنْهِ التَوَجُّدِ تُخْبِر وتبين لنا لِمَ يستحق الشعرُ الشكرَ: أحرك بالأبيـات ما كان سـاكنا وأوغل صدر العاشقين ليثأروا أصوغ به عن كــل بعدٍ حكـاية وعن كل وصــلٍ للمحبين يذكر وتلقی به روح الحزين مُرَادَها ومنه إلى رحبٍ من الحلم تنظر وتختتم القصيدة بسرِّ وفاء الشعر لها، وهو أنها بذلت له مقدما ما تستحق عليه هذا الوفاء: وهبتُ له وقتي ونبضي وأدمعي فكان ليَ الخِلُّ الذي ليس ينكرُ ولا يخلو الديوان من قصائد المناجاة الروحانية، أختار منها أبياتا من قصيدتها (صمت عوالمي): يا رب إني قــد دعوتُك خاشــعا وأسِرُّ في الأعمـاق ما لا يُعلــنُ إلا إليـك وأنــتَ أَعْظــم واهــب فإليكَ من كـل المخــاوف أَرْكَنُ نجواي بل شكواي بل كُلُّ المنى تدري بها وأنا الضعيف المُوهَنُ أدعوكَ لا أرجو ســواك وإننــي بإجابتــي لــو بعــد حيــنٍ أوقـن ونلحظ التناص في قولها (نجواي بل شكواي) مع نص الصاوي شعلان، في ترجمته لقصيدة محمد إقبال (حديث الروح)، حيث يقول: شكواي أم نجواي في ها الدجى ونجوم ليلي حُسَّدي أم عُوَّدي ومن القصائد الوطنية قصيدة (إلى العلياء)؛ أطول قصائد الديوان، إذ تتألف من واحد وعشرين بيتا، في ثلاثة مقاطع، كل مقطع اختارت له رويًّا مختلفا، كما اختارت للقصيدة مجزوء الوافر لتغدو أنشودة للوطن، وأغنية تردد على لسان المواطن: محمــدُ فخُــرْنَا ولَــــــــــهُ نغنـــــــي بالــــــولاء نشــــيـــدْ لنـا مجــدٌ نُســطِّــرُه على مَـرِّ الزمانِ تليـدْ لنا درب الســموِّ فلا ترانا عَـن هُداهُ نَحِيــدُ فداك الروح يا وطنا إذا نقص الزمان يزيـــــــد ومن قصيدة وطنية أخرى بعنوان (وطن الضياء): أَرْسَتْ عَلَى نَهجِ الإلـه دعائما وبه تذودُ عَنِ الحِمى وتُحارِبُ تعطي بِلَا مَنٍّ .. ففيضُ أَكْفُـهَا خَيْرٌ يُغاتُ بِه الوَرَى وسحايب وإليك يا وطن الضياء توافدَتْ مِــنْ كُلِّ فَــجٍّ لِلسَّــلامِ مواكب ومن دلائل تعلقها بالشعر القديم محاكاته في الوقوف على الأطلال، لأن الباقين بعد رحيل الأحبة ليس لهم غيره، ففي قصيدة (أيا ليل) تقول: أيا ليلُ إن كان الأحبة قد جفوا فإني على الأطلال ما زلتُ باكيا ومن قصيدة (أغنيك) تقول: ومن لنا حين موج الوجد يغمرنا إلا الوقوف على أطلال من ذهبا وفي قصيدة (ليل الغياب) تعبر شاعرتنا عن معاناة المحب المضاعفة؛ بسبب غياب من يهوى، وعدم قدرته على البوح وبسبب ظنهم أنه غير مكترث. تقول: ظَنّــوا فــؤادَكَ جلْـمــدا وصــقيعا وبليدَ حسٍّ في الغــرامِ مُرِيعا يا ليتـهمْ كشــفوا عن القلــب الذي قد صُــدِّعَتْ جدرانُهُ تصديعا يهوى ويقتله السكــوت علـــى الهـــوى لم يلق في ليل الغيــاب شفيعا وتُصور شاعرتنا قلب المحب الذي رحل عنه أحبابه بقلب التقي حين يذنب، فهو يحترق من داخله على تفريطه. وفي حين يرجو التقي الغفران، فإن المحب يفقد الامل، وهي صورة معنوية، وفقت إليها الشاعرة. تقول: الراحلون.. فكل قلب بَعْدَهُــمْ يُمسي كما يُمسي التقي المُذنب وهناك في إثر القوافل لاهـثٌ خلف الســراب بِحُلْمِهِ يتعــذب مازال يكتب في الرمال وظَنّـُه أن الريــاح بما يخُــط سَتَذهَبُ وفي قصيدة (سوط العذل) تتحدث عن شرعة المحبين، وهي التسامح رغم ما يصيب القلب من المواجع. تقول: فكم تناءتْ دروبٌ بعد ما اجتمعتْ وكم فؤادٍ بداءِ الغدر قد فُطِرا لكن تظل لأهل العشقِ شِـرعتَهـم فكل ذنب لمن يهوون قد غفرا ننسى، نسامح، رغما عن مواجعنا نُلقِّنُ القلب صـبرا كلما كســرا وأخيرا أختم باضطرار المحبين للزوم الصمت والخلوة حين لا يجدي الكلام، كقول شاعرتنا: إني عشقت الصمت حتى صار لي لغــة وصارت وحدتي محرابي وقولها: تعودت السكون فجُلُّ وقتي أردد في فضاء الصمت قولي