«سرادق عزاء أزرق» للكاتب عثمان الشيخ..

حكايات سودانية مليئة بالحياة والخيال.

شهد عام 2024 صدور منجز سردي لافت عن دار “الموسوعة الصغيرة”، حمل عنوان “سرادق عزاء أزرق” للقاص السوداني المبدع عثمان الشيخ. وتأتي هذه المجموعة لتعزز مسيرة كاتب فريد عرفته الأوساط الأدبية والسردية من خلال إصداراته السابقة، إبتداء من”تلصص” إلى مجموعته القصصية “الخروج من بوابة الجسد” والتي تُرجمت إلى الإنجليزية، مما يفتح آفاقاً رحبة لهذا القلم الساحر نحو العالمية. أصالة السرد وهضم الموروث عثمان الشيخ ليس مجرد سارد، بل هو قارئ نهم ومطلع اطلاعا واسعا على التراث السردي؛ حيث نجح في هضم هذا التراث وإعادة صياغته بصبغة شخصية متفردة. تبرز في نصوصه شخصية الكاتب المعتزة بهويتها السودانية؛ فثقافة السودان، بلهجتها وأمثالها وأجوائها، ليست مجرد ديكور، بل هي روح تسكن السطور. نجد هذا جلياً في استخدامه لمفردات محلية ذات جرس خاص مثل: (العطرون، القشلاق، القطران)، والأسماء والألقاب السودانية المشهورة كـ (آدم، وبابكر)، مع لفتة ذكية منه في تذييل النصوص بحواشي تشرح هذه الألفاظ، مما يسهل على القارئ العربي الانغماس في هذه البيئة الخاصة دون حواجز لغوية. التقنيات الفنية: من النهايات المفتوحة إلى “الأنسنة” تتجلى مهارة الشيخ الفنية في قدرته على اللعب بمصائر الشخصيات وبناء نهايات مربكة للقارئ. في قصته “تعريف واحد للحب”، نجد نموذجاً بارعاً لـ “النهاية المفتوحة”؛ فوضع البطل لمفكرته على حافة النهر وقفزه فيه تاركاً عبارة: “الحب أن تترك كل ذلك وتجرب شيئاً جديداً”، يفتح احتمالات التأويل على مصراعيها: هل هي رغبة في تجربة السباحة؟ أم هروب نحو ضفة أخرى؟ أم أنها تجربة الموت غرقاً كخلاص نهائي؟ كما تبرز تقنية “الأنسنة” بوضوح في نص “من الذي علم الطائرات الطيران”، حيث يخلع الكاتب صفات الكائن الحي على “الطائرة”، فيجعلها جسداً يهضم وله فضلات، مما يمنح النص بُعداً حيوياً مدهشاً. الواقع الرقمي ومسحة الفانتازيا لم يغفل الكاتب عن رصد التحولات المعاصرة، ففي النص الذي حملت المجموعة اسمه “سرادق عزاء أزرق”، نجد رصداً ذكياً لـ “الواقع الرقمي”وفكرة (التريند)؛ حيث تحولت حالة “العزاء” الإنسانية إلى مادة رقمية جافة تتجرد من مشاعرها لتصبح مجرد تفاعل إلكتروني عابر. وفي زاوية أخرى، تتنفس قصص عثمان مسحة من “الفانتازيا” كما في قصّتي: “سهو”، و”سماء مزدحمة بالوقود”. ولعل قصة “قبر يتحدث”هي الأكثر طرافة وذكاءً في تناول “الشخصية الشكاكة” التي لا تثق بأحد؛ لتأتي النهاية صادمة وساخرة حين يُسمع صوت من داخل القبر، فيعلق أحد الأصدقاء: “اتركوه، فلربما يريد أن يتأكد أنكم دفنتموه بشكل جيد”. فضاء مكاني متنوع وأمانة علمية تنوع الفضاء المكاني في المجموعة ساهم بشكل فعال في خلق زخم سردي متنوع؛ فالمكان يتنقل بمرونة بين (الحي الشعبي السوداني، الطائرة، ثكنات الجيش، الفندق). وفي خضم هذا الإبداع، يحسب للكاتب التزامه بـ “الأمانة العلمية”؛ حيث أشار في حواشيه إلى استعارته لتسمية “الطائر المعدني” (كناية عن الطائرة) من الكاتب السوداني الهادي راضي. وأخيرا عثمان الشيخ كما عرفته عن قرب، هو قاص يبهر في الوصف، ويدهش في النهايات، ويسحر بلغته التي تزاوج بين التراث والحداثة. إنه “حكاء بالفطرة” حتى على المستوى الشخصي، حين تقرأ أو تستمع إليه تشعر أن القصص تنبثق منه بعفوية مع تشويق مبهر فلا تستطيع إلا أن تكون منصتا انصاتا تاما لما يلقي على مسامعك من حكاياه التي لا مثيل لها، كل قصة يسردها عثمان الشيخ تصبح “ألف ليلة وليلة”!