قراءة في تجربة إبراهيم مضواح الروائية..

سرد مفتوح على صراع متجدد.

يُعد الروائي إبراهيم مضواح الألمعي أحدَ الروائيين البارزين في الساحة الأدبية السعودية؛ فقد نشر روايته الأولى «جبل حالية» عام 2009م بعد أن حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي، عام 2008م، وأصدرَ روايته الثانية «عتق» عام 2012م، وحازت جائزة حائل للرواية، وأصدرَ روايته الثالثة «فراغ مكتظ» عام 2023م، ودخلت القائمة الطويلة في جائزة كتارا للرواية العربية عام 2024م. رواية جبل حالية: تكشف رواية «جبل حالية» منذ العنوان عن المسرح الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهي البيئة الريفية الجبلية، إلا أن السؤال المتبادر للذهن، لم سمي بهذا الاسم؟! تجيب الرواية عن ذلك بأنه اسم لأحد جدات بطل الرواية «عمر السورجي»، ونُسبَ إليها لأنها ألقت بنفسها من قمته بسبب خذلان الرجل الذي أحبت، بعد أن حملت منه: «نسبوا الجبل إليها؛ تخليدًا لاسمها على طريقة العرب في تأجيل التكريم إلى ما بعد الموت، أو تخليدًا لعارها»(ص24). تتعدد المداخل لقراءة رواية جبل حالية، فالرواية مهمومة بإشكالات كثيرة تزاحمت في أحداثها، فطغى الجانب السردي على الوصفي، وحضرت التحولات الاجتماعية التي مرت بها السعودية، والطفرة الاقتصادية، والصراع الفكري بين المحافظين والليبراليين الذي يمثل الجانب الأول فيه شخصية «نافع»، والجانب الثاني شخصية «جمال». كما سلطت الضوء على بعض القضايا العربية: العدوان الثلاثي، الغزو العراقي للكويت، الغزو الأمريكي للعراق. والرواية في كل ذلك تطرح الأسئلة ولا تقدم إجابات. والموت هو أهم المداخل إلى قراءة رواية «جبل حالية»؛ فقد رافق بطل الرواية «عمر السورجي» من بداية الرواية حتى نهايتها. بدأت الرواية من قبر «عمر السورجي»، فأخذ يسترجع أحداث حياته. منذ ولادته حتى نهاية حياته؛ وغيّب الموت أمه عند ولادته، ثم فجع بفقد جدتيه (حالية، وفضة)، مرورًا بفقد محبوبته آسية؛ فالموت هو اليقين بين كل الأشياء النسبية في «جبل حالية». رواية عتق: تثير هذه الرواية كثيرًا من الأسئلة المباشرة وغير المباشر في طرحها لقضية الحرية الفردية مقابل القيود الاجتماعية، ولعل أول الأسئلة غير المباشرة التي تطرحها الرواية وأهمها اختيار العنوان «عتق»؛ فالعتق هو إعطاء الحرية للشخص المملوك، فلم اختار الكاتب هذه المفردة عوضًا عن كثير من مرادفاتها؛ كالحرية أو الإرادة؟ رغم أنّ هذه اللفظة لم ترد إلا مرة واحدة في ثنايا الرواية. لعل ذلك يعود إلى كون هذه الكلمة أدق تعبيرًا وأعمق من أي كلمة أخرى، وقد يكون عائدًا إلى معجم الروائي الديني، وقد يكون اختيار هذه الكلمة كونها أكثر غرابة وإثارة، فمن وظائف العنوان الوظيفة التسويقية، إضافة إلى أن لفظ الحرية قد يأخذ تصورًا فكريًا بعيدًا عما أرادت الرواية. تتناول الرواية شخصية «سعد الشافي» الباحث عن الحرية، الساعي للتخلص من كل قيد يعيق استقلاله، فقد ترك الجامعة بعد أن بلغ السنة الأخيرة فيها، ليعمل فارزًا للرسائل في مكتب البريد: «كانت الرغبة في التمرد هي المحرك الأساسي لهذا القرار»(ص8). وانفصل عن زوجته زاهية ليتحقق له هذا المطلب في التخلص من قيد الزوجية، إلا أنه اكتشف أخيرًا ركضه خلف سراب لا يمكن أن يبلغه «انتابه شعور بأن كل الذي فعله بطلاقه زاهية واستقلاله في شقة خاصة به لا يعدو الانتقال من زنزانة تقوم على خدمته فيها زاهية، إلى قبو يقوم على خدمة نفسه بنفسه... وقد أيقظه الكابوس من زهوه بحرية موهومة أدرك للتو أنها زائفة»(ص135). رواية فراغ مكتظ: لعل أصدق وصف يمكن أن توصف به هذه الرواية هو عنوانها، وهذا العنوان على ما فيه من مفارقة في الجمع بين الفراغ والاكتظاظ عميق جدًا، وملخص لما جاء في الرواية. تسلِّط رواية «فراغ مكتظ» على الصراع الفكري بين المحافظين والليبراليين، الذي احتدم خلال العقود الماضية؛ فالرواية تظهر هذا الصراع في قالب سردي يمتّع القارئ من جهة، ويكشف عن دوافع كل فريق من جهة أخرى، كما ينبه إلى خطورة الانسياق والتبعية بلا وعي. تقوم فكرة الرواية على الجمع بين النقيضين في مقابلة تلفزيونية يجريها بينهما المذيع «هزاع»، يمثل اتجاه المحافظين فيها «الشيخ نبهان»، ويمثل الاتجاه الليبرالي «الدكتور علّام»، وقد توسَّلَت الرواية بتقنية الاسترجاع؛ للكشف عن دوافع كلا الشخصين فيما تبنياه من اتجاه، فقد كان «نبهان» يستثمر الدين للكسب المادي والمعنوي، بينما كان «علّام» يتمترس خلف قناع الليبرالية لتحقيق للشهرة، والمال، والمتعة. كما كشفت الرواية عن اتجاه كل فريق لنقد الأشخاص لا لنقض الأفكار: «تثير هذه الردود حنق هزاع، وتكشف له زيف المبادئ التي يدعيها الطرفان، فمهما ادّعوا الموضوعية والعدل والإنصاف فهم لا ينظرون إلا للأشخاص، إنها معارك أشخاص لا معارك مبادئ ولا أفكار»(ص42). تجدر الإشارة إلى أن نهاية الرواية تُركت مفتوحة، وختمة بكلمة «بدأت»، مما يوحي بأنّ الكاتب يرى أنّ الصراع لم ينته، وسيتجدد بشكل أو بآخر. وتشترك الروايات الثلاث في بعض الثيمات منها: - الصراع الأيديولوجي: حضر هذا الصراع في «جبل حالية» بين «نافع» الذي يمثل الجانب المحافظ، و»جمال» الذي يمثل الاتجاه الليبرالي، كما جاء في رواية «عتق» وإن كان بشكل غير مباشر. - بؤس الطفولة والاعتلالات النفسية للبطل: فقد عانى «عمر السورجي» بطل رواية «جبل حالية» من قسوة الأب، وفقدان الإنسانة التي أحب؛ مما سبب له اعتلالات نفسية، اضطرته لزيارة عيادات الطب النفسي. كما أن «سعد الشافي» بطل رواية «عتق» قد تعرض لبؤس العيش، والانحراف الأخلاقي ما جعله يعاني من اضطرابات نفسية انتهت به إلى تناول أقراص مهدئة. و»هزاع» بطل رواية «فراغ مكتظ» عانى من عنف من كان يظنه والده، ما جعله يعيش قَلِقًا، ومكتئبًا، وناقمًا. - فقدان الأم: عمر السورجي فقد أمه منذ ولادته، ولم تستطع أي امرأة سد الفراغ الذي يشعر به: «لم يشعر عمر يومًا بالرضا عن نفسه، فهو يعتقد أنّ الذين يعتني بهم غيرُ أمهاتهم لن يعيشوا أسوياء»(ص9). و»سعد الشافي» فقد أمه بمرض السرطان. و»هزاع» فقد أمه صغيرًا وتخلى والده عنه. - الرغبة في الحرية والتمرد: وهذا الرغبة كانت ملحة عند «عمر السورجي»، وإن لم يكن يستطيع التصريح بها لمن حوله، كما كانت هي الدافع وراء تصرفات «سعد الشافي»، وانتهازية «هزاع». إن تكرار هذه الثيمات في الروايات الثلاث يوحي بوجود المؤلف الحقيقي، وهذا ما يراه بعض النقاد مؤشرًا على خلل فنيٍ؛ بحسب نظرية التواصل السردي، وإن تنوَّعت ضمائر السرد. ولعل من الأهمية الإشارة إلى وجود علاقة بين دراسة المؤلف الأكاديمية واتجاهاته التي اتخذها في رواياته، إذ أعانه تخصصه، ولم يكن عائقًا أمامه في مناقشة قضايا عصرية حساسة، يحجم الكثيرون عن الخوض فيها؛ لاعتبارات دينية أو اجتماعية. ويلاحظ استخدام المؤلف -في الروايات الثلاث- لتقنيات مستعارة من فن السينما لعل من أهمها تقنيتي الفلاش باك وتعدد وجهات النظر، وهو ما يمكن أن نسميه تداخل الفنون. وبعد هذا التطواف في عالم إبراهيم مضواح الروائي، نرى أنه عالم مليء بالدلالات والثيمات التي ربما تتطور أو يصيبها نوع من التغير والتحول في المستقبل، فما زال نهر إبداعه متدفقًا يرصد معالم النفس الحَيرى في كافة حالاتها.