لا يزال العرب محبين للخيل متصلين بها اتصالا حميميا عاليا يكشف عن أهميتها كما يتجلى ذلك في كتب التراث التي تعرض لأسماء الخيل وصفاتها حتى إن القارئ ليشعر أن الخيل هي جزء من الإنسان وليست مجرد مطية للركوب، فهي راحلته في السفر وآلته في الحرب وأنيسه في ليالي الصحراء الموحشة. ولا يزال الشاعر العربي مشغوفا بوصف الخيل ولا سيما شكلها ووصف أعضائها وحركاتها وصوتها خالعا على كل ذلك مشاعره وأحاسيسه وحالته النفسية أحيانا. ولقد تطرقت كثير من الدراسات الأدبية والنقدية للشعر لهذا الأمر. وأزعم ان حديثها عن حركة الخيل وعلاقاتها بنفسية الشاعر وجمالياتها لم تحظ بشيء من ذلك إلا النادر، ما حداني إلى تتبع وصف الشاعر العربي لوصف حركة خيله عند نماذج من الشعراء منهم امرؤ القيس وعنترة ومالك بن الريب والمتنبي في مقال قصير سيكون له امتداد في قراءة موسعة، كل ذلك محاولة مني للكشف عن جماليات حركة الخيل الدلالية والنفسية. ومن هنا نجد أن من أشهر ما قاله الشاعر العربي في وصف حركة الخيل وأرسخها بقاء في الذاكرة الشعرية العربية أبيات امرئ القيس الشاعر الجاهلي: مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل هذا البيت الذي يجري على الألسنة ولايزال منذ أكثر من خمسة عشر قرنا، ولم يكن بيتا يتيما بل لوحة تتشكل من عدة أبيات سابقة له ولاحقة لتشكل في جملتها مشهدا سينمائيا بل مشاهد عجيبة، فالبيت الذي يسبقه يقول: وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل والبيت اللاحق هو: درير كخذروف الوليد أمرّهُ تتابع كفيه بخيط مفتّلِ حيث يصف الشاعر سرعة خيله العالية في مشاهد سينمائية متتالية، بدءا بمطاردة الوحوش في الفيافي وهي أسرع الكائنات ويكمن جمال الصورة من خلال تلك المقارنة حيث تتحول حركة الخيل(سرعته) إلى قيد(سكون) للوحوش التي تطرده(بمنجرد قيد الأوابد هيكل) في صورة ديناميكية مدهشة، فالفيزياء تقول في قانون السرعة أن الجسم الاسرع يجعل من الاقل سرعة وكأنه ساكن، وهذا ما هو حاصل مع خيل امرئ القيس والوحوش، ولا تقف الصورة عند هذا الحد بل ينطلق الشاعر في البيت التالي في وصف حركة أخرى للخيل في صورة مركبة من خلال الجمع بين الأضداد(مكر، مفر، مقبل، مدبر: معا) وليست الدهشة في،اجتماع الأضداد فقط بل في كلمة معا التي جاءت كسلسلة من الحلقات تربط بيت كل تلك الصفات التي لا تحدث متفرقة بل في آن فالخيل تكر وتفر وتقبل وتدبر في الوقت نفسه، وقد استخدم الشاعر أسماء الفاعل بدلا من الأفعال ليجمع بين حركية الفعل المضارع وثبات الاسم فالسرعة ثابتة لا تقل ولا تضعف وكأن الخيل آلة لا كائن حي يصاب مع الوقت بالإجهاد، ليختم الصورة الحركية بالتشبيه المركب (كجلمود صخر حطه السيل من عل) فجلمود تكشف الضخامة والصلابة والسيل يبين قوة الأثر التي تدفع الخيل وكلمة من عل تعرض السرعة الفائقة التي تقول الفيزياء عنها ان السرعة من الأعلى للأسفل تكون أشد بسبب الجاذبية وهنا يجعل من خيله خرافيا وكأنه يهوي عموديا لا يندفع بشكل أفقي، ليتحول بعدها الخيل إلى كتلة واحدة يختفي فيها شكله الطبيعي ويبدو وكانه كتلة واحدة، (درير كخذروف الوليد) أي سريع الدوران، وهنا نجد الشاعر يلقي بظلال نفسية على الصورة تعكس صراعه مع سالبيه ملك أبيه الذي لم يستطع ان يسترجعه، ولا استطاع أن يكف عن طلبه حيث تدفعه رغباته في استرجاعه وترغمه على الانشغال به، كما يفعل السيل بالصخرة، وكفتى يزل من على صهوة الخيل التي صارت صهوات مع خيل الشاعر لا صهوة واحدة. وخلافا لامرئ القيس الذي يصف حركة خيله السريعة نجد من الشعراء من يصف بطء تلك الحركة ومنهم عنترة بن شداد في قوله: وازورّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم ففي الفعل (ازورّ) الذي يعني مال وانحرف ولكن دون أن يبرح مكانه ما يدل على بطء حركته لأنه في مكان لايسمح له بالسرعة وهو ساحة المعركة حيث ازدحام الخيل والتحام الفرسان ببعضهم، وهنا يعرض عنترة صمود خيله الذي حدث لصمود فارسه، رغم كثرة القنا التي تضرب في نحره فهو مقدم مواجه وليس فارا لتقع في ظهره وهذا احتراز من الشاعر كي لا يقال عنه جبان مفر. وما أجمل الفعل ازور الذي يشبه حركة الكاميرا البطيئة في التصوير السينمائي لتقصي كل جزئيات المشهد ممسرحة لنا صورة ضراوة المعركة وشدتها. ومثل عنترة نجد الشاعر مالك ابن الريب في قصيدته التي يرثي فيها نفسه أثناء موته يقول: وأشقر محبوكا يجر عنانه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا فمشهد الموت مشهد مهيب والحركة فيه بطيئة وحدادية لا عجلة فيها، والنزع ثقيل على النفس والجسد فهو يجعل الجسد ثقيلا لا يقوى على الحراك، وهنا ينقل الشاعر حالته النفسية والجسدية إلى خيله وكأنهما كائن واحد، فتنعكس حركة الشاعر وخوفه على حركة خيله، لهذا وصف حركته بالفعل (يجر) الأكثر دلالة على البط وثقل الحركة، وهو الفعل نفسه الذي كرره الشاعر بصيغة أخرى حين قال: خذاني فجراني بثوبي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا ففعل الأمر جراني يدل على البطء وعدم القدرة على الفرار من الموت، بعد أن كان الشاعر فارسا لا يلحق ولا يشق له وخيله غبار، وهنا يتجلى عمق التوحد والاتصال بين الشاعر وخيله وكأنهما مخلوق واحد. ونقف أخيرا على المتنبي الذي أرى أنه نسيج وحده وقد جمع بين النقيضين في وصف الخيل سرعة وبطئا، ففي وصفه لبطء حركتها يقول في ممدوحه: يهز الجيش حولك جانبيه كما نفضت جناحيها عقاب ففي كلمة يهز الجيش وهو يريد الفرسان على ظهور خيولهم ما يدل على انتظامية الحركة وليس الانتظام في حركة الجيوش من صفات السرعة، وهو هنا يعرض التحام الجيش بالقائد والقائد بالجيش وكأنهم جسد واحد كطائر العقاب وجناحيه. أما في وصفه لسرعة خيله فنجد صورة لا أظن شاعرا سبقه إليها في مبناها المحكم ودلالاتها النفسية والجمالية، إذ يقول عن نفسه على صهوة خيله: على قلق كأن الريح تحتي أوجهها يمينا أو شمالا وهناك من يقرأ(قلق) بفتح اللام وآخرون بكسرها والفرق هنا ،وهو الأهم، نفسي فوصف الخيل بالقلق بكسر اللام وهي أدق تعبيرا يكشف عن الحالة النفسية والسؤال كيف يكون الخيل قلقا وهنا أقول إنها جدلية عجيبة بين الخيل وصاحبه تصف حالة الإلتحام بين الفارس والفرس وتأثر كل منهما بشعور الأخر وطاقته الكهرومغناطيسية ووصف الطاقة بهذا يعرض حالتين حالة سريان التيار وحالة الجذب بين الكائنين المتحدين وتشبيه المتنبي الخيل بالريح مستخدما كأن المكونة من كاف التشبيه وأن لقوة الجملة الإسمية بخلاف لو قال كالريح فشبه الجملة ضعيفة ويتجلى المتنبي في ذروة الحذق حين قال أوجهها يمينا أو شمالا فهو هنا يكشف عن نسق مضمر يبين حالة الفراغ الكبير والفوضى التي يعيشهما المجتمع العربي ما يسهل لكل طارئ اجتثاثه ولكل ريح اللعب به وتوجيهه حيث ترغب فهي المتحكمة والموجهة وهو المسلوب الإرادة والحكمة في التصرف وفقا لمقتضى الحال ، وهنا تتجلى رؤيا العالم في هذا البيت موضوع تناولنا وفي بقية شعره تلك الرؤيا المتشكلة من عالمين هما العالم الكائن(الواقع) المطلوب تجاوزه والعالم الممكن( الحلم) المراد تحقيقه، فنجد الشاعر واضعا العلاج في ضرورة التحول من حالة الحركة الفوضوية إلى حالة الحركة المدروسة المتولدة من وضع السكون المتأمل والثبات الراسخ لمعرفة أين يجب التوجه وفق الحاجة: أوجهها يمينا أو شمالا وهنا تنكشف لنا الحالة النفسية المتوترة تفكيرا والمستقرة عن الفعل حيث تصبح أو يجب ان تكون الذات في حالة فاعلة حالة القدرة على التحكم في الأمور وتسييرها نحو الهدف أنى كانت جهته.. ويؤيد هذه الرؤيا عند الشاعر المتنبي قوله: ومرهف سرت بين الجحفلين به حتى ضربت وموج البحر يلتطم رجلاه في الركض رجل واليدان يد وفعله ما تريد الكف والقدمُ حيث نجد ما يؤكد أهمية القدرة على التحكم في قيادة الأمور في أحلك الظروف(بين الجفلين) حيث الخيل الأداة متلاحمة الأجزاء رجلاه رجل واحدة ويداه يد وكأنه كتلة واحده، كناية عن سرعة الحركة هذه السرعة المستوجبة في هكذا موقف لإرباك الخصم، والخيل هنا لا تعيقه إحاطة الجحافل به ولا الازدحام ولا تؤثر من سرعته بل تزيد من طاقته، وكل ذلك لم يكن لولا( وفعله ما تريد الكف والقدم) بصيرة الفارس القائد النافذة وقوته الفاعلة وإرادته.... وهكذا فإن وصف الشاعر العربي لخيله كان تقليدا متبعا عند معظم الشعراء، في حين كان وصف حركة الخيل خلافا لذلك، فهو نابع من رؤية عميقة للشاعر تتعلق في كثير من الأحيان بالحالة النفسية التي يمر بها الشاعر وهي ابنة ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية معينة أنجبتها وتربت وكبرت فيها لتصبح صورة شعرية لها جمالياتها الدلالية والنفسية وأسلوبها في الكشف عن رؤيا العالم عند الشاعر العربي.