الحوكمة والجودة.. مفاهيم ملتبسة.

في عالم يشهد تحولات متسارعة، ويواجه تحديات متزايدة، تبرز كل من “الحوكمة” و”الجودة” كعنصرين أساسيين لتحقيق التميز المؤسسي، وضمان استدامة الأعمال. وهما مصطلحان إداريان، لكل منهما ركائز وأهداف ومجالات خاصة به، لكنهما يعتبران وجهان لاستراتيجية واحدة، تتمثل في المحافظة على كيان المنظمات بكافة تصنيفاتها المؤسسية، والارتقاء بجودتها. وعلى الرغم من ارتباطهما الوثيق ببعضهما في سياقات مختلفة، لكنهما يختلفان في التركيز والأهداف والمجالات، فـ “الحوكمة” تُعَرَّف بأنها الإطار الذي تدار من خلاله العلاقات والمسؤوليات بين أصحاب المصالح في المنظمة شاملة الهياكل والعمليات التي تضمن صنع القرارات المصيرية، ورسم السياسات العليا بدرجة عالية من المهنية والاقتدار، وذلك من خلال مجالس الإدارات، واللجان الفرعية، والأجهزة التنفيذية، ووضع آليات دقيقة للمساءلة لتأكيد مسؤولية الأفراد والجماعات عن قراراتهم وتصرفاتهم، وتفعيل آليات الرقابة والامتثال والتوجيه الاستراتيجي وإشراك أصحاب المصلحة – بكافة أطيافهم - في صنع القرار، بشكل فَعَّال وشَفَّاف. وتوثيق شؤون مجالس الإدارات التي تتضمن أدوات اختيار الأعضاء، وأدوارهم، وإدارة اجتماعاتهم، وتنظيم علاقتهم مع الإدارات التنفيذية. إضافة إلى إجراءات المراجعة الخارجية وعمليات التدقيق الداخلي، والرقابة الفعالة على العمليات المالية والإدارية، وسياسات إدارة المخاطر المحتملة، ووضع استراتيجيات جاهزة للتعامل معها. ويجب أن تكون مفاهيم “الحوكمة” حاضرة وبشكل دائم، في المنظمات الربحية، وغير الربحية، وكافة كيانات القطاع الثالث. ومن أهم أدوات “الحوكمة” الأنظمة ذات الصفة التشريعية، ولوائحها التنفيذية، إضافة إلى لوائح الإفصاح والشفافية، ومواثيق العمل التي يجب أن يلتزم بها كافة العاملين في المنظمة وعلى مختلف مستوياتهم القيادية والإدارية، ناهيكم عن كفالة حقوق المساهمين والأعضاء في التصويت والمشاركة في اتخاذ القرارات المهمة. بينما تشير “الجودة” إلى الدرجة التي تفي بها الخدمة أو العملية المقدمة من المنظمة بالمعايير المعمول بها، والمتفق على أهميتها ودرجة ضرورتها، لتلبية توقعات العملاء، وتحقيق متطلباتهم. وتركز “الجودة” على وضع معايير جيدة للإدارات التنفيذية وأدائها، كما تسعى نحو التحسين المستمر للعمليات، ولكافة الخدمات والمنتجات، وتطبيق أجود المواصفات، ومن أهم أدوات “الجودة” المنهجيات الحديثة لتحقيق رغبات ورضا العملاء، وفقًا لتوقعاتهم، وقياس الأداء، وتقييم النتائج من خلال المقاييس والملاحظات بشكل مستمر، واتباع الأساليب الفعالة لتقليل الآثار البيئية السلبية للنشاطات التشغيلية والتسويقية، وصولًا لتحقيق “الجودة” المستدامة، والأثر البيئي السليم. هذا وإن الإفراط في إصدار التعليمات، يربك أعمال “الحوكمة” الجيدة لاسيما في المنظمات الصغيرة والناشئة، كما إن الإسراف في نشر التعاميم قد يخلق التَبَلُّد لدى المنظمات، أمَّا ضعف التواصل بين مجالس الإدارات والمستويات المختلفة في المنظمة فإنه يؤدي – حتمًا - إلى سوء الفهم وعدم التوافق في فهم الأهداف وتحقيقها. وأن مقاومة الموظفين لتطوير العمليات وتحديث اللوائح الداخلية، مع نقص التدريب الكافي لهم حول مفاهيم “الجودة” وأدواتها يسهم بهشاشة الأداء، ويتسبب بضعف الالتزام بمعايير “الجودة”، الذي يعوق - بكل تأكيد - تحسينها، وتعظيم مخرجاتها. ومن الأهمية بمكان التَعَرُّف على مقاصد “الحوكمة” و”الجودة” على نحو دقيق، واستيضاح الحدود الفاصلة بينهما، بصورة لا تداخل فيها، والعمل على توزيع الأدوار بين الجهات المشرفة على المنظمات، وأصحاب المصلحة. فالجهات المشرفة مسؤولة على نحو مباشر عن حوكمة المنظمات وتطبيقاتها، بينما أصحاب المصلحة والمستفيدين منها، معنيون بتطبيقات “الجودة” في أعمال المنظمة. الخلاصة أن “الحوكمة” و”الجودة” طرفا منهجية شاملة تهدف إلى بناء منظمة قوية، وقادرة على مواجهة التحديات، من خلال وضوح الأهداف، والالتزام بالمبادئ الراسخة، واستخدام الأدوات المناسبة، وتطبيق أفضل الممارسات العالمية. وبكل تأكيد أن لكل منهما – “الحوكمة” و”الجودة” - تأثير مباشر على حيوية المنظمة والقدرة على استمرارية أعمالها، واستدامة أهدافها. في الأخير لابد من العمل على وإزالة ما يشوبهما من التباس، لا سيما عند السواد الأعظم من غير المختصين، مما يثير كثيرًا من الإرباك والضبابية، ومن الأهمية بمكان فك هذا الاشتباك، حتى تصفو أجواء المنظمات، وتنقشع الغيوم الإدارية، وتتضح الرؤية أمام العاملين في هذه القطاعات الهامة، لا سيما منظمات المجتمع المدني.