صرخة الهُوِيَّة..في زمن العولمة.
اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل وعاء ثقافة، وسياج هُوِيَّة، وضمانة سيادة. ولهذا قال الفيلسوف الألماني “مارتن هايدغر 1889 -1976م “(اللغة مسكن الكينونة). وقال المفكر الأمريكي، فلسطيني الأصل “إدوارد سعيد 1935 – 2003م” (اللغة واحدة من أعظم البنى العقلية التي أنتجها الإنسان). في مفارقة غريبة، نجد بعض العرب يتباهون بالتحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية حتى في سياقات اجتماعية داخلية لا تقتضي ذلك. بل وتتفشى أسماء أجنبية على المحلات التجارية، والمراكز الترفيهية، كما لو أن الفخامة لا تتحقق إلا بالرطانة والتغريب! ولأهمية التمسك باللغة القومية فإن فرنسا تمنع استخدام الكلمات الإنجليزية في إعلاناتها الرسمية أو في تسميات كافة مؤسساتها، حتى في المجالات التكنولوجية. وقد صدر في عام 1994م “قانون توبون” نسبة إلى وزير الثقافة الفرنسي “جاك توبون” حيث يفرض هذا القانون استخدام اللغة الفرنسية في كافة المجالات الرسمية والاقتصادية، ويُعَدُ خرقُه مخالفة قانونية. وفي ألمانيا ورغم شأنها الكبير في قطاع الصناعة والهندسة، لم تتخلَ عن لغتها الأم. أما في اليابان فقد تم ابتكار مصطلحات” جديدة باللغة اليابانية دون الارتهان للغات الأخرى. إن تدهور مكانة اللغة الأم في المجتمع ليس مجرد عارضٍ ثقافي، بل مؤشرٌ على أزمة انتماء، وضعف جوهري في منظومة الولاء، كما بيّنت ذلك في مقال تم نشره في “مجلة اليمامة” الغراء، بتاريخ 15/12/2022م، وبعنوان “العربية.. اللغة الملهمة” حيث أكدت أن لغة الشعب – أيما شعب – هي الحاضنة الأساسية لهويته الوطنية، فإن تصدعت هذه الحاضنة اندلقت هُوِية هذا الشعب، وعندما تندلق الهُوِية، ترتخي العقيدة الوطنية، وحين ترتخي العقيدة تَفْتُر مشاعر الانتماء، فيهون الولاء، وعندما يَهُن الولاء للوطن يصبح هذا الوطن فضاءً مكشوفًا ويمسي حمىً مستباحًا لكل حاف ومنتعل. تُعَد المملكة العربية السعودية مثالًا مُشَرِّفًا في الاعتزاز بالهُوِية الوطنية، وتعزيز السيادة اللغوية. فقد نص “النظام الأساسي للحكم” في مادته الأولى على أن اللغة العربية هي لغة الدولة الرسمية. كما جعلت “رؤية السعودية2030” من تعزيز الهوية الوطنية - بما في ذلك العناية باللغة العربية - هدفها الأول. وفي هذا السياق، تم إنشاء “مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية” وشددت الحكومة على استخدام اللغة العربية في جميع المخاطبات الرسمية وفي كافة المؤتمرات التي تقام في المملكة، كما عممت وزارة الشؤون البلدية والإسكان على ضرورة استعمال اللغة العربية في تسمية الأحياء والشوارع والمراكز التجارية. لكن رغم هذه القرارات، يبقى التحدي الأكبر في “التنفيذ” فَضُعْف الالتزام من بعض المؤسسات، وعدم جدية المتابعة، يترك هذه النصوص عرضة للتهميش. ولغرض تنسيق الجهود بين الجهات الحكومية تمنيت في مقالٍ منشور في هذه المجلة بتاريخ 06/01/2020م بعنوان “لسان الضاد.. يستغيث واسلماناه” أن يتم تكليف “هيئة الرقابة ومكافحة الفساد” بمتابعة ورصد جميع التصرفات المخالفة لـ “النظام الأساسي للحكم” و”رؤية السعودية 2030” وقرارات مجلس الوزراء والتعليمات الوزارية التي جميعها تؤكد على القيمة العليا لهويتنا الوطنية وحتمية استخدام اللغة العربية، والتحقيق في جميع الممارسات المخالفة لذلك. كما أهيب – هنا - بـ “وزارة الثقافة” العمل على إنشاء إدارة عامة ضمن هيكلها الإداري، لحماية اللغة العربية ميدانيًا، والعناية بها في جميع المجالات، وعلى كافة الأصعدة. وفي هذا السياق أحلم بولادة جمعية أهلية تُسْهِم في معاضدة الجهود الحكومية الباسلة للذود عن حياض اللغة العربية. في الثامن عشر من شهر ديسمبر لعام 1973م اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية واحدة من لغاتها الست، وأعلنت هذا اليوم يومًا عالميًا للغة العربية، وفي هذا اليوم – الفارق - تصعد اللغة العربية، لتتحدث عن نفسها، لكنها، وعلى الرغم من مجدها التليد، تقف اليوم على جرفٍ هارٍ من النسيان والإهمال، تهددها ممارسات التهميش والتغريب، وتشلّها مشاعر التقاعس المقلق. حيث بكاها الشاعر المصري “حافظ إبراهيم 1872 – 1932م” بقوله: أيهجُرني قومي عفا الله عنهمُ .... إلى لغةٍ لم تتصلْ برُواةِ؟ فهل يَبُسَت أحاسيس العرب وتخشبت مشاعرهم تجاه لغتهم العريقة؟ وهل نحتفل باللغة العربية اليوم احتفال العارف بمكانتها القِيَمِية؟ أم نرثيها رثاء المهزوم أمام لحظةٍ وجدانيةٍ عابرة؟ اللغة العربية ليست في خطر لأنها ضعيفة، بل لأننا هجرناها. فلنتصالح معها، ولنردّ لها الجميل، ونَبرها في يومها العالمي، لا بالقول المزخرف فحسب، بل بالفعل الحازم، والعمل الجاد. والشعور المسؤول، ولنصغي مليًا إلى صرخة الهُوِيَّةِ، ولنحمي لغتنا الجميلة من سطوة السوق، في زمن العولمة.