يتميز فناننا لهذا الأسبوع بلوحاته الفريدة التي تنتمي إلى مدرسة فنية خاصة تحمل اسم “الضبابية”، فبعد مشوار فني طويل تنقل خلاله بين مدارس الفن المختلفة، نجح في ابتكار أسلوبه الخاص الذي يعبر عن رؤيته الفنية بتميز، نجده عادةً مولع برسم معالم ومشاهد المدن، من شوارع وإشارات مرور وإضاءات، هذا الشغف بالمدن وما تحتويه من تفاصيل ينعكس بوضوح في أعماله الفنية، إنه الفنان التشكيلي السعودي “بدر الجبيل”، الذي شارك في العديد من المعارض الفنية المحلية والدولية، مما أكسبه شهرة واسعة ونال جوائز تقديرية عدة، في هذا الحوار نتعرف على عالمه الفني الفريد ورؤيته الإبداعية، حيث يروي لنا قصته مع الفن منذ بداياته في سن الرابعة عشرة، وكيف تطورت مسيرته الفنية من المدرسة الواقعية إلى التأثيرية والتجريدية وصولاً إلى ابتكاره لمدرسته الخاصة “الضبابية”، ونستكشف معه تفاصيل تقنياته المميزة في الرسم. * لديك رحلة فنية تمتد لأربعة عقود، هل يمكنك أن تأخذنا بالزمن إلى الوراء عندما اكتشفت شغفك بالفن التشكيلي، وتحدثنا عن المحطات الرئيسية التي شكلت هويتك الفنية؟، وكيف أثرت تجاربك في المراحل المبكرة على تطور أسلوبك الخاص؟ ** بدايتي مع الفن التشكيلي كانت منذ 40 عامًا، حين كنت في الرابعة عشرة من عمري، ففي ذلك الوقت اكتشفت أنني أميل بشدة إلى الرسم كهواية ومارسته بشغف كبير، كنت أشارك في أي فعالية أو مناسبة تتاح لي، وأتممت دراستي المتوسطة بتفوق، ومن شدة حبي للفن، التحقت بمعهد التربية الفنية بالرياض، وأتذكر أثناء شبابي أنني كنت أرسم جداريات لاستديوهات التصوير في مدينتي، واشتهرت بها، مما أكسبني شهرة محلية، ثم واصلت مشاركتي في فعاليات رعاية الشباب، وبعد ذلك انتقلت إلى جمعية الثقافة والفنون في بريدة، حيث أقمت أول معرض لي في عام 1407 هـ. مررت خلال فترة دراستي بمدارس فنية عديدة، بدأت بالواقعية، ثم التأثيرية، وبعدها التجريدية، هذه التنقلات بين المدارس الفنية أكسبتني تنوعًا في الخبرات وأثرت بشكل كبير على تطور أسلوبي الخاص، إلى أن تبلور أسلوبي بشكل فريد من نوعه، الذي أسميته “الضبابية”، باستخدام تقنيات خاصة مثل لف الريشة وإنتاج تدرجات لونية بدون تحديد دقيق، كانت هذه المرحلة تتويجًا لكل ما تعلمته واكتسبته من خبرات على مر السنين، حيث أصبح هذا الأسلوب يعبر بشكل دقيق عن رؤيتي الفنية ويعكس هويتي الخاصة. * لو تحدثنا عن “الضبابية”؛ هل يمكنك أن تخبرنا بتفاصيل أكثر عن هذا الأسلوب؟، وكيف توصلت إلى تقنيات هذا الأسلوب وكيف أثرت هذه التقنية في تمييز لوحاتك عن أعمال الآخرين؟ ** أسلوب “الضبابية” ـ وكما ذكرت سلفًا ـ يعتمد على تقنية لف الريشة والتدرج من عنصر إلى عنصر بدون تحديد دقيق، هذا النهج يؤدي إلى إضفاء ضبابية على اللوحة، مما يمنحها تأثيرًا مميزًا وغامضًا يجذب الأنظار، بدأت بتطوير هذا الأسلوب بعد أن مررت بتجارب متعددة كانت بمثابة قاعدة متينة مكنتني من استكشاف وتجريب تقنيات وأدوات مختلفة حتى وصلت إلى ما أسميته “الضبابية”، وتطويري لهذا الأسلوب لم يكن بدون تحديات، فقد كان عليّ أن أتعلم كيفية السيطرة على الريشة والتحكم في التدرجات اللونية بطريقة تخلق تأثير الضبابية المطلوب، وفي الوقت نفسه، تعبر عن رؤيتي الفنية بوضوح، وقد استغرق الأمر الكثير من التجريب والصبر، لكن في النهاية، أصبح هذا الأسلوب هو بصمتي الخاصة التي تميزني عن باقي الفنانين. * أسلوب “الضبابية” يعتبر جديدًا في الساحة التشكيلية بالمملكة، فكيف ترى مستقبله؟، وما هي طموحاتك لهذا الفن في المستقبل؟ ** أسلوب “الضبابية” فن جديد وغير مطروح سابقًا في الساحة التشكيلية بالمملكة، وأنا أرى أن لهذا الأسلوب مستقبلًا واعدًا، خاصة مع الدعم والتشجيع الذي تلقيته من شخصيات مرموقة مثل الأمير مشعل بن محمد وغيره من المتذوقين للفن، فإشادتهم وحماسهم لهذا الأسلوب تمنحني دافعًا كبيرًا للاستمرار في تطويره وتقديمه بشكل أوسع، وأنا أعمل على نشر هذا الأسلوب والتعريف به محليًا من خلال مشاركاتي في المعارض الدولية وورش العمل الفنية، وأتمنى أن يُلهم هذا الأسلوب الفنانين الجدد ويشجعهم على التجريب والابتكار، وأن يصبح جزءًا من التراث الفني للمملكة، يعكس هويتنا ويبرز قدراتنا الفنية على مستوى عالمي. * هل هناك لوحات معينة تعتبرها أبرز إنجازاتك بهذا الأسلوب ونالت شهرة واسعة؟ ** أشهر لوحة لي ضمن هذا الأسلوب هي “لوحة الناقة”، التي نالت سمعة كبيرة في مسيرتي الفنية، هذه اللوحة تجسد بوضوح تدرجات الألوان وانسجام العناصر بدون حدود واضحة، مما يضفي على العمل إحساسًا بالعمق والخيال، حيث كانت هذه اللوحة بمثابة نقطة تحول في مسيرتي، حيث لاقت استحسانًا واسعًا وساهمت في تعريف الجمهور بأسلوبي الخاص. * نجدك تميل إلى رسم الأمطار وانعكاسات الأضواء وضربات اللون، مع تضمين معالم من المملكة أو مشاهد من شوارعها وطرقاتها أثناء المطر، كيف تتفاعل تقنياتك الخاصة مع موضوعات الأمطار والانعكاسات؟ ** صحيح؛ أجدني أميل إلى رسم مشاهد الأمطار وانعكاسات الأضواء لأنها عناصر تثير في نفسي الكثير من الإلهام والجمال، حيث لاحظت أن المطر وما يصاحبه من انعكاسات الأضواء على الأسطح المختلفة يخلق تأثيرات بصرية ساحرة وفريدة، هذه العناصر تتناغم بشكل خاص مع تقنياتي مما يضفي على لوحاتي عمقًا وواقعية مميزة، وقد أحببت أن أدمج في كل لوحة معلمًا من معالم مملكتنا، أو مشهدًا من شوارعها وطرقاتها وقت المطر، وهذا الأسلوب نال إعجاب الجميع، لم تكن هذه المشاهد مجرد مناظر طبيعية، بل كانت تعبر عن حياة وحركة المدينة في أجواء المطر، مما يضفي على اللوحة إحساسًا بالحياة والدفء، ولا شك أن أسلوب “الضبابية” يتفاعل بشكل مثالي مع موضوعات الأمطار والانعكاسات، حيث يمكنني خلق تأثيرات ضبابية تنقل الشعور بالغموض والجمال الذي يصاحب مشاهد الأمطار. * كيف يمكن للضوء أن يؤثر على استنباط القيم الجمالية في اللوحة، وما الذي يجعله عنصراً أساسياً في تشكيل تجربة الجمال البصري؟ ** الضوء ركيزة أساسية في الفن التشكيلي، فهو لا يقتصر على إضاءة الأشكال والألوان بل يعزز من أبعادها الجمالية والفنية بشكل استثنائي، هو شريك حيوي يشكل الألوان ويجسد العواطف والمشاعر التي تنبعث من اللوحة، ويعكس الضوء تدرجات الألوان ويعزز من تباينها مما يسهم في إبراز عمقها وتعقيداتها الفنية، ويمكن للضوء تحويل لوحة عادية إلى قطعة فنية تنطوي على أبعاد عاطفية وفلسفية عميقة، وفي لوحاتي أفتح نوافذ للضوء ليمر عبر الألوان وينشئ تبايناتها المدهشة، ما يخلق لحظات فريدة من التأمل والجمال. * ما هو دور الحركة التي يولدها التفاعل بين الضوء واللون في لوحاتك؟، وكيف تعزز هذه الحركة تجربة الناظر وتفاعله مع العمل الفني؟، أقصد كيف يمكن أن يؤثر التفاعل الإيقاعي بين اللون والضوء على تجربة الحواس والإحساس بالجمال والبهجة للمتفرج؟ ** بفضل تفاعل الضوء واللون، أنشئ تجارب بصرية تلامس الروح وتثير الحواس، ما يجعل كل عمل فني تجربة فريدة ومبهجة لكل من ينظر إليه، واستخدامي للضوء يعكس رغبتي في إلهام المشاهد بالجمال والعمق، وترك انطباع دائم ينبض بالحياة والحركة داخل كل لوحة، والحركة التي يولدها التفاعل بين الضوء واللون في لوحاتي تعد جزءًا أساسيًا من تجربة الفن البصري، حيث يتشكل نسيج اللوحة بفضل هذا التفاعل الإيقاعي بين هذين العنصرين. الحركة في لوحاتي تأتي كنتيجة لتقاطعات الضوء والظل، حيث يعزز الضوء من تباين الألوان ويجدد أشكالها بطريقة توحي بالحياة والديناميكية، وعندما يتفاعل الضوء مع الألوان، ينشئ تباينات وتأثيرات بصرية تعمل على استدعاء حواس المشاهد، ويشعر المتفرج بالبهجة والجمال عندما يشاهد كيف تتحرك الألوان وتتغير مع كل تغيير في إضاءة اللوحة، مما يثير إحساسه بالاستمتاع بلحظات فريدة من الجمال البصري. * حصلت على العديد من الجوائز والدروع، كيف أثرت هذه الجوائز على مسيرتك الفنية وما أهميتها بالنسبة لك؟، وكيف ترى الاعتراف بموهبتك من خلال اقتناء أعمالك في بعض الدوائر الحكومية ورجال الأعمال؟ ** للجوائز تأثير كبير على مسيرتي وشكلت مصدرًا كبيرًا للفخر والتشجيع، هذه الجوائز ليست فقط تقديرًا لجهودي وعمالي، بل هي أيضًا مؤشر على الاعتراف بموهبتي وإبداعي من قبل المجتمع الفني والجمهور، وما أجمل الأمور أن تكون لوحاتي مقتناة في الدوائر الحكومية أو مقتنيات خاصة، هذا الاعتراف يعكس مدى تقدير الناس لها، هذا شرف كبير لي، ويشجعني على الاستمرار في تقديم الأفضل، فبشكل عام تعطي الجوائز والمقتنيات لأي فنان دفعة قوية للاستمرار في الإبداع وتقديم الأعمال الفنية المتميزة، وفي الإطار يسهم في تعزيز مكانة الفن والفنانين في المملكة. * ختامًا؛ برأيك ما الذي ينقصنا من أجل تحقيق المزيد من تعزيز ثقافة اقتناء اللوحات والأعمال الفنية، وتشجيع الفنانين على الإبداع والتطوير؟ ** أتمنى أن تزيد المؤسسات العامة والخاصة من تبنيها لثقافة دعم اقتناء لوحات الفنانين، حيث إن هذا النوع من الدعم يعتبر محفزًا كبيرًا للفنانين ويشجعهم على الاستمرار في الإبداع وتطوير الفن التشكيلي في مملكتنا الغالية، فوجود دعم مؤسسي لاقتناء الأعمال الفنية لا يسهم فقط في تعزيز مكانة الفن التشكيلي، بل يفتح أيضًا آفاقًا جديدة للفنانين للتعبير عن أنفسهم وأفكارهم، وأقترح إنشاء متحف فني يضم الأعمال القوية والمعبرة، ليكون مزارًا للفن يتوافد إليه المهتمون والمتذوقون والسياح، هذا المتحف يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في نشر الوعي الفني والثقافي، ويكون منصة للتواصل بين الفنانين والجمهور، مما يعزز من مكانة الفن ويزيد من تفاعل المجتمع مع مختلف الفنون، ولا شك أن هذا المتحف سيشجع الفنانين على الابتكار والإبداع، بالإضافة إلى كونه نقطة جذب سياحية تعكس عمق وإرث الفن السعودي.