ابراهيم زولي ...

القرن العشرين وما تصنعه الأغلفة.

كثيرا ما تصنعنا الكتب، تقترح لنا سرديات مفتوحة عوالم ومدن وجسور وعناوين، مثلما تضعنا عند “اغلفة” تؤدي وظائف العتبات والخرائط الكونية التي تقودنا الى اسفار لا حدود لها، والى اغواء المكتبات التي نعيش مع اشباحها على طريقة بورخس ومانغويل، حيث نتحسس الوجود عبرها، ونبحث معها عن المخفي والسري والمسكوت عنه والغاطس في سير واسفار أولئك الخارقين الذي تركوا عشبة خلودهم وراء الاغلفة.. عالم الاغلفة هو عالم توصيفي لتلك العتبات بتوصيف جيرار جينيت، مثلما هو عالم العلامات التي يجعل من اغلفة كتب السرد والفكر والفلسفة، عناونين مهمة للزمن الثقافي، ولما تحمله من اشارات تؤكد اهميتها في صياغة هوية ذلك الزمن، وفي التعبير عن تحولاته وصراعاته، يجعل من استحقاق قراءتها والتعرّف عليها، مجالا مفتوحة للكشف عن التعالق ما بين الثقافي والزمني، وما بين التاريخي والسردي والنفسي والايديولوجي.. كتاب الشاعر السعودي إبراهيم زولي “ما وراء الأغلفة.. روائع القرن العشرين” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت 2025يضعنا في هذا السياق، حيث تبدو الاغلفة وكأنها مجسّات للتحريض على الافصاح عما تكتنزه نصوص وحكايات وافكار كتبها، بوصفها زمانات ثقافية تتسع للتعرّف على العالم، وعلى البحث عن المعرفة، أو على تقصي الغائب منها. الذهاب الى القرن العشرين هو اللقاء مع تلك “الزمانات”، حيث التعرف على حمولاتها من خلال الكتب، وعبر ما تركته من اغلفة/ علامات، يدخل فيها الجمالي والسحري والتشكيلي والغرافيكي، مثلما يدخل فيها الرمزي والبصري، وعلى نحو يكون فيه الغلاف نصا موازيا، بتوصيف جيرار جينيه، ليس لجذب الانتباه فقط، بل لمنح القارىء إحساسا ب”فتنة الكتاب” لأن الغلاف سيكون هنا هو الاغواء الباعث والمحرّض على التلمس، وعلى الذهاب الى الوعد الذي يقترحه غلاف هذا الكتاب أو ذاك. الغلاف وسرائر الكتب. اختيار ثلاثين غلافا من الكتب التي صدرت في القرن العشرين، رهانٌ شاق، لكنه فعل توثيقي يعكس مدى الوعي بمسؤولية هذا الاختيار، لاسيما الاغلفة التي تخفي في “ما ورائها” من أفكار وسرديات وحكايات كبرى، حاول المؤلف أن يجعل منها مغامرة معرفية، وجرأة نقدية ووثائقية، يفصح عبرها عن رؤيته لما يحسبها “ كتب كونية” وبأغلفة فرضت تداوليتها على القارىء، وعلى قيم التعلّم، فتحولت الى عناوين مفصلية للزمن الثقافي، وللزمن السياسي، وللمدارس والمناهج التي كرستها حضورها الثقافي والسيميائي.. اغلفة القرن العشرين ليس بعيدة عن هوية ذلك القرن العاصف، فبقدر ما هو قرن الحروب العالمية الكبرى، والعلوم الكبرى، وأزمات الحداثة الكبرى، فإنه كان أيضا قرن الثقافات الكبرى، في المدارس والمناهج والبيانات الفنية والفكرية والثورات العلمية والمعرفية، فما كان للكتب الا أن تكون شاهدا على ما تؤسس له من مغامرات ومن اسفار وذاكرات ووثائق. لقد تنوعت اغلفة الكتب بين اتجاهات متعددة، جمعها المؤلف لتبدو أكثر تمثيلا للخارطة الثقافية، ما بين الروايات والكتب الفكرية والمسرح والشعر وعلم النفس والفلسفة، حيث اخضعها الكتاب الى اجراءات “عينه النقدية” ومسؤوليات اختياراته الثقافية، فجعل منها وكأنها شهادة وخلاصة معرفية للقرن ولتحولاته المعقدة.. لم تغب تلك الاختيارات عن هواجس المؤلف، ولا عن طبيعة مشروعه الثقافي، إذ وضعها في مرجل معرفي، دال على سعة قراءاته، وعلى حساسيته النقدية إزاء اغلفة كتب تأسيسية، فجمع نقائضها ومرجعياتها الايديولوجية والسياسية والنفسية والفلسفية لتبدو وكأنها “الكشكول السحري” الذي يتجاوز عقدة “الكتاب الهجين” الى ما يمكن تسميته ب”جامع اللذات” فالمعرفة لذة، والقراءة لذة، الغلاف هو اول لحظات الاغواء فيها، حيث يتحول اللقاء الثقافي بين “ مكسيم غوركي وجيمس جويس وسيجموند فرويد وميشيل فوكو والبير كامو وكافكا وجان بول سارتر الى سبيكة من المعادن النفيسة، لا تتناشز فيها الأصول المعرفية والسردية والنفسية، قدر ما يتسع لمعانها وتوهجها عبر الحثِّ، والاحتواء، إذ تمنحها القراءة طاقة الاكتشاف، والتعرّف على علاقتها بالتاريخ والايديولوجيا وبالأرشفة، وبما يُعطي لهذه الكتابة وظيفتها في توصيف وتوثيق الريادة، من خلال الأثر، والتأثير، لا سيما في اختياره لروايات مفصلية في تاريخنا الثقافي، مثل رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل، ورواية “الأم” للروسي مكسيم غوركي، ورواية “عوليس” للايرلندي جيمس جويس، وكتاب “ في الشعر الجاهلي” للمصري طه حسين، ورواية “الغريب” للفرنسي البير كامو، ورواية “مائة عام من العزلة” للكولومبي غابريل ماركيز، ورواية “زوربا” لليوناني كازنتاكس، ورواية “ اولاد حارتنا” للمصري نجيب محفوظ، ورواية “اسم الوردة” للايطالي امبرتو ايكو، وراوية “1984” للانكليزي جورج اورويل، والكتاب السحري “ارض اليباب” للانكليزي ت. س. اليوت، فضلا عن مسرحية” في انتظار غودو” للايرلندي صوموئيل بيكت، وكتاب “تفسير الاحلام” للنمساوي سيجمون فرويد، وكتاب “ الجنس الآخر” لسيمون دي بوفوار، وكتاب “الوجود والعدم” للفرنسي جان بول سارتر، وكتاب “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” للفرنسي ميشيل فوكو، ورواية “محبوبة” للاميركية توني موريسون، وكتاب “الاستشراق” للفلسطيني ادورد سعيد، و كتاب” الخطيئة والتكفير” لعبد الله الغذامي، وكتاب “تكوين العقل العربي” للمغربي محمد عابد الجابري، وكتاب “البروسترويكا” للروسي غورباتشوف، حتى اختيار كتاب “ الاسلام واصول الحكم” للمصري مصطفى عبد الرازق، يدخل في سياق التمثيل السيميائي الفارق للكتاب الذي اثار جدلا عاصفا حول نظرية الحكم وعلاقته بالسلطة.. الكتاب واسئلة جامع الاغلفة. يمكن أن نجعل كتاب ابراهيم زولي يحمل عنوان “جامع الاغلفة” مثلما يمكن أن يكشف عن عنوانٍ خفي ل”القارىء الانطولوجي” الذي جعل من كتابه يحمل سلسلة مفاتيح التعرّف على “ما وراء الاغلفة” التي سمّاها “روائع القرن العشرين، وكأنه يقترح عبرها “جامعا ثقافيا” يؤدي وظيفة حامل مجسات التعرّف على ما يحتشد في تلك الكتب من محمولات تاريخية في الفلسفة والجنس والمعرفة والسرد، وفي ما تركته من آثار مفصلية، وتغيرات فارقة خلال توالي اصداراتها في القرن العشرين، بوصفه قرن “ما بعد نيتشه” الذي انفتح على صدمات الظاهراتية والتحليل النفسي والاستشراق والبنيوية والشيوعية والوجودية والتقويضية وما بعد الحداثة، ليبدو مشهد اختيار الاغلفة مثيرا، ومستفزا للقارىء في ذلك القرن، بوصفه القارىء الذي يمكن أن يشبه “الاركيولوجي” الذي ادرك موت “زمنه الرومانسي” ليجد نفسه وخطابه إزاء زمن غامر بالتناقضات والمفارقات، تحركه احلام المغامرين من الفلاسفة والروائيين والباحثين في علوم اللغة والفكر والاجتماع والتاريخ، انحيازا الى ذائقة متعالية، تدرك حساسية الاختيار، وفاعلية الغلاف الذي يتوارى خلفه الكتاب، الكتاب الذي يشبه فأس الحطاب، وموقد الكوانين، و”سارق النار البرومثيوسي، و”جامع النصوص” الذي يجعل من الاغلفة علامات فائقة الاثارة في أن تكون “عتبات” لحلم جيرار جينيت وهو يجعل منها تناصات مفتوحة وغوايات محرضة... قد يبدو صعبا ترسيم حدود لذلك الاختيار، ولما يحمله من مغامرة، ومن حساسية اختصار “القرن العشرين” في اغلفة محددة، لكنه سيكون موضوعيا وثقافيا، في توصيف تلك الكتب، وفي أن يجعلها تلعب دورا في تشكيل “وعي العالم” وفي تمثيل صراع الافكار الكبرى التي حملتها تلك الكتب “الكبرى” ليس بوصفها كانطولوجيا زمنية، بل كحمولات تتحمل قراءات متعددة، ومقاربات تخص التعرّف على “الصدمات الكبرى” بما فيها صدمة “المشروع الحداثي” الذي راهنت عليه فلسفات الاصلاح والتنوير، وصدمة انهيار “الايديولوجيات الكبرى” و”السرديات الكبرى” على نحو جعل من تلك الكتب وكأنها علامات، ومؤشرات تاريخية ورافعات معرفية، اراد من خلالها الكتاب أن يمارس وظيفته ك” مثقف نقدي” أو “مثقف وثائقي” لم يرغب أن يكون محكوما بالأطر التقليدية، ولا بالمركزيات الايديولوجيا، فكان أكثر وعيا بأهمية أن يرى القرن الماضي من خلال وثائقه/ كتبه واغلفتها المتعددة.. * كاتب وناقد عراقي.