عاصم عصام الدين في روايته الأولى ..

حكاية الغرباء في مدينة الحلم المكسور .

صدر حديثاً للكاتب عاصم عصام الدين بخاري رواية “عرب في بي أوغلو” عن دار مدبولي للنشر والتوزيع في القاهرة، وهي رواية اجتماعية تتناول التحولات الثقافية والإنسانية في قلب منطقة تقسيم بإسطنبول، من خلال عدسة شخصيات عربية تعيش هناك، بين الهوية والمنفى، والانتماء والتشظّي. تقع الرواية في 248 صفحة من القطع المتوسط، وتتميز بطباعة أنيقة وغلاف فني جذاب. صُمّم الغلاف بأسلوب بصري يعكس المزاج العام للرواية: صورة لشارع الاستقلال عند الغروب، يغمره ضوءٌ برتقالي باهت، تتخلله ملامح شخوص مبهمة تسير باتجاهات متضادة، في إشارة إلى التمزق الداخلي والتباين الثقافي في المنطقة. وفي عالم تزدحم فيه الروايات التي تتحدث عن الحروب واللجوء والتهجير، لكنّها تظل سطحية أو مبتذلة، تأتي رواية “عرب في بي أوغلو” لتكون صوتًا مختلفًا، فريدًا، وصادقًا في آنٍ معًا. إنها رواية مدينة، لكنها ليست مجرد وصف لمكان جغرافي بل شهادة على حياة الإنسان المنفي، المنسلخ عن وطنه، التائه في متاهات الغربة، وحلمه المكسور في مدينة لا تعرفه ولا تراه إلا كظلٍ عابر. بي أوغلو… مسرح الهوية الممزقة يُعد حي بي أوغلو في إسطنبول نموذجًا حيًا للتنوع، حيث يلتقي الشرق بالغرب في سيمفونية معقدة من الأصوات والوجوه والقصص. لكن في رواية بخاري، لا ينظر إلينا الحي على أنه مجرد مكان سياحي أو مركز ثقافي، بل كمساحة رمزية تُجسد حالة الهوية العربية الممزقة. في هذا الحيّ، هناك عرب مشرقيون من مختلف البلدان الذين قدموا هربًا من جحيم أوطانهم؛ بعضهم يهرب من حروب، والبعض الآخر من قمع أو فقر أو مأساة اجتماعية. لكن المدينة ليست ملاذًا آمنًا لهم، بل تحوّلت إلى مسرح للتيه والضياع. الشخصيات التي يسردها الكاتب تظهر وكأنها تمشي بيننا، لكنها بلا ظلّ، بلا مرآة، بلا هوية مكتملة. رجال ونساء يكافحون من أجل البقاء وسط المدينة، لكنهم في الحقيقة يتخلّون عن أنفسهم قليلاً كل يوم، في محاولة يائسة للاندماج أو التكيّف أو الهروب من الذاكرة. العرب كما هم… بعيدًا عن الأقنعة ما يميز رواية “عرب في بي أوغلو” أنها لا تقدّم العرب في صورة مثالية أو ناصعة، ولا تضعهم في قالب “المنفي الشريف” أو “اللاجئ النبيل” الذي يختصرهم في رموز شفقة أو بطولات. على العكس، ترسم شخصياتها بصورة ناضجة وجريئة، كما لو كانت تعكس مرآة الحياة الحقيقية بكل تعقيداتها. في الرواية، هناك نساء عربيات يسيرن في شوارع بي أوغلو بلا خجل، وربما بلا بوصلة، يعشن صراعات داخلية عميقة بين ما هو موروث اجتماعي وما هو مطلوب من الحرية التي تمنحها المدينة. وهناك رجال يمارسون حياتهم في الظل، يعيشون الليل ويختفون مع بزوغ الفجر، كأنهم كائنات ليلية اختارت أن تكون بعيدة عن الأعين. هذه الشخصيات ليست مثالية، لكنها ليست مذنبة أيضًا. هي مزيج إنساني من القوة والهشاشة، من الحنين والعبث، من السقوط والانبعاث. إنهم تجسيد للحالة العربية المعاصرة في المهجر، حيث تلتقي مشاعر الغربة بالبحث الدائم عن الذات والكرامة. الرواية لا تدين، لكنها لا تبرئ أيضًا؛ إنها تفتح نوافذ الحقيقة دون أن تخفي شيئًا، سواء كانت الجراح أو نقاط القوة، اللحظات الضعيفة أو تلك التي ينبعث فيها أمل خافت. لغة الرواية… حين تُشبه خطوات العابرين اللغة في “عرب في بي أوغلو” تشبه إيقاع المدينة نفسها: متقطعة، متوترة، وحذرة. نثر الكاتب يمشي بخطوات مرتابة بين الأرصفة، كأنه يخشى أن يُكشف أو أن يختفي فجأة وسط زحام البشر. صوت المؤلف، الصحفي الذي تعود على ملاحقة القصص الصغيرة، لا يكتفي بسرد الحكايات بل ينجح في خلق أجواء تتيح للقارئ الشعور بكل لحظة، كل نبضة من حياة هؤلاء الغرباء. هو صوت لا يهاجم ولا يبرر، بل يشارك القارئ في رحلة عميقة نحو فهم الذات حين تُنزع من جذورها وتلقى في ليل طويل بارد. الرواية كمرآة للتيه العربي هذه الرواية تتجاوز كونها مجرد سرد مكاني لتصبح تصويرًا دقيقًا للهوية العربية الممزقة، المعلقة بين الأرض التي هُجرت منها، والمدينة التي اختارتها أو اضطرت لها. تظهر الرواية كيف يمكن للهوية أن تصبح سائبة، مبعثرة، وغير قابلة للاستقرار في فضاء جديد. إسطنبول في النص ليست فقط مكانًا جغرافيًا، بل رمزًا لحرية مشوبة بالوحدة والغربة. مدينة يمكن أن تشرب فيها الخمر، وترقص، وتحيا حيوات مختلفة، لكنك قد لا تجد نفسك فيها أبدًا. “ليس كل من هرب من وطنه نجا بنفسه”، هذه الجملة تلخص جوهر الرواية، فهي تتناول ذلك التناقض الحاد بين الحلم الذي يحمله اللاجئ وبين الواقع الذي يصطدم به في المهجر. … رواية في مواجهة الاستسهال مع هذه الرواية الأولى، وضع عاصم عصام الدين بخاري بصمة قوية في أدب المدن والهجرة. ليس أدبًا يختزل المدن في معالمها السياحية، بل أدب يحفر في جوهرها، في حياة الناس الذين لا صوت لهم، ويكشف عن تفاصيل لا تُروى عادة. “عرب في بي أوغلو” ليست رواية تطلب إعجاب القارئ أو رضاه، بل نصّ صريح وجريء، يضعه في مواجهة مباشرة مع نفسه، مع غربته، ومع المدينة التي ربما لم يختَرها، لكنه لا يستطيع الهرب منها. إنها رواية تستحق القراءة أكثر من مرة، لأن كل قراءة تُظهر طبقة جديدة، بُعدًا مختلفًا، وجهة نظر أكثر عمقًا، بل تستحق أن تُقرأ ليس فقط من قِبل القراء العرب، بل من كل من يريد أن يفهم حقيقة حياة المهجر، والهوية حين تفقد جغرافيتها وتتشظى في ليل مدينة لا تنام.