عالق بين جيلين!

نحن جيلٌ عالق بين جيل « البروليتاريا» , والجيل « الرقمي» الجديد, أن تكون بالوسط دائماً , فذلك أمر لا يخلو من ومضات فنتازيا , ففي حالتيّ الفر والكر لن تكون في المقدمة, فالأوائل يعتبرونك من المتأخرين , وأولئك يعتبرونك من « جيل الطيبين» , وهذه الجملة المتكورة بين قوسي التنصيص يُراد بها الشفقة لا الإنصاف في أحسن الأحوال وأقلّها سخرية , ورغم ذلك تأتي مخادعة فلا أنت الذي تستطيع أن تتقبلها كصفة إيجابية , ولا أنت تستطيع نفي الطيبة عن جيلك! , فمثلاً في ذروة الصراع الأدبي بين الأصالة والحداثة , كنّا نقف في المنتصف, وكأننا الـــ ( UN) , قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام , نسمع حرّاس اللغة ونعجب بأصالتهم , ونلتفت للقوالب وهي تتهشم على أيدي الحداثيين بتمرد آسر , ونتمتم : «كلكم حلوين والله» , ورغم ذلك لا يعجب كلامنا الجميع , فهناك من يرى أننا «نميّع» القضية , وفي الجانب الآخر يرون فينا «حياد» الخائف! ورغم ذلك , أو «رغم أنف ذلك وأولئك» نحن شهدنا مفارقات إنسانية موجعة بين الجيلين , الجيل السابق لنا , والجيل الذي يلينا , أي أننا شهود العصر , فشهدنا جيلاً يعود في المساء وهي يمنّى نفسه بوجبة فاخرة يلتهمها إلى أن يصل لآخر درجات التخمة وغالباً لا يجدها , وجيلاً لاحقاً يجبر نفسه على عدم الأكل رغم توفره تحت مسمّى «الكيتو» والقوام الممشوق , ومن يمنّى نفسه بوقت راحة بعد عمل شاق طويل , وجيلاً يشتكي من الراحة فيذهب إلى «مراكز اللياقة» ليدفع مالاً مقابل أن يتعب! في المقابل كل جيل – عدانا- له امتيازاته الخاصة , فالجيل السابق يعطر ليالينا الشتوية الطويلة بقصص البطولات والفروسية, وهي ميزة لا نستطيع أن نمارسها أمام الجيل الرقمي , ليس لأنه سيكون مشغولاً بآخر أخبار وادي السيلكون, بل لأنه سيكتشف مصداقيتنا بسؤالٍ عابر لجليسه الرقمي « الذكاء الاصطناعي» , خذ مثالاً عن فكّي كماشة الجيلين وهما يسخران من أننا – جيل الوسط – نقرأ روايات طويلة تستغرق أياماً لقراءتها , فإن قلنا للجيل القديم إن القراءة نتعلم منها كل يوماً شيئاً جديداً , فسيهمس شيخاً معتّق بخبرة عقود من المناكفات : «أشوفكم صرتوا علماء!», وإن قلت ذات الكلام لصبيّ من الجيل الرقمي فسيخبرك إن هذه الثرثرة الطويلة التي تسمّى أدباً يستطيع من خلال «Chat GPT» أن يكتب نصاً يوازيها مع صور حيّة لمكان الأحداث وصور لأبطال الرواية قبل أن يرتد طرفك إليك , وهكذا تشعر أنك تعيش - أو تعيس لا فرق – في عالم معلّب, وسريع جداً , لدرجة إن حتى أطفال الجيل يكبرون بسرعة ! ونحن نصغر بذات السرعة – يا للعنة المجاز – فالجيلان ينطلقان باتجاه مختلف , ونحن لأي الجهتين ننتمي!, ولهذا نلجأ مجدداً للمجاز , ننطلق للأعلى كروح ترفرف لبارئها , وللأمانة الجيل الرقمي سخريته لاذعة – رغم أنه لا يقصدها- فمثلاً عندما نقول الشاعر العظيم محمود درويش , يفاجئنا : كيف عظيم و»درويش» في ذات الوقت , ماذا لو قلنا له أن الفاجومي اسمه فؤاد « نجم» ! الطريف في الأمر أن الذكاء أصبح « اصطناعي» , فيما الغباء لا يزال « فطري»!, وكل شيئاً أصبح سريعاً ليس ابتداء من الوجبات السريعة , والطُرق السريعة , وأخبار «العواجل» السريعة , ورغم ذلك لا زلنا نردد: «في العجلة الند».