قراءة نقديّة لمسرحية «ضوء» لفهد رده وأحمد الأحمري ..

رحلة بصرية داخل اشتباك الوعي والذاكرة على خشبة الطائف .

تستند هذه القراءة إلى العرض الذي قُدّم مؤخرًا في مهرجان الديودراما بالطائف بتنظيم من جمعية المسرح والفنون الأدائية، تمثيل: عبدالوهاب فندي وبدر الغامدي. وتنطلق من تحليل البنية البصرية والحركية للعرض، وتفكيك العلاقات بين الفضاء والأداء واللغة بوصفها مكوّنات تنتج دلالتها داخل سياق واحد. تستند القراءة إلى فرضية مركزية مفادها أنّ ممثّل ١ وممثّل ٢ شطرين لذات واحدة منقسمة، تتوزّع توتراتها بين طبقتي الوعي واللاوعي. من خلال تتبّع اشتغال السينوغرافيا، وحركة الجسدين في الفضاء، وتكرار الصور الصوتية والبصرية، تُقرأ المسرحية بوصفها رحلة داخلية تتجسّد فيها صراعات الذات مع ذاكرتها ومحاولاتها المتكرّرة لترتيب فوضاها. يقوم هذا المدخل على تحليل دقيق لتكوينات السرير، وموقع الجسدين فوقه وتحته، ولحظات التماهي والانقسام، ليكشف كيف يتحوّل المسرح إلى صورة للباطن الإنساني في اشتغاله على الضوء والعتمة معًا. يبدأ العرض بمؤثرات صوتية مستوحاة من الموروث الشعبي السعودي تعود في الخاتمة بالحضور ذاته، في حركة دائرية تشير إلى انغلاق الرحلة على نقطة بدايتها، وإلى أنّ البحث لم يكن سوى دوران داخل الذات نفسها. يتأسّس منطق الانقسام داخل العرض من خلال الفضاء المسرحي؛ إذ يظهر الشطران في حيّز مظلم. يدخل ممثّل ١ حاملًا أعواد الثقاب والشمعة، في هيئة تُجسّد القلق والرغبة في الاقتحام والكشف، بينما يستقرّ ممثّل ٢ تحت السرير. فيغدو السرير مركزًا رمزيًا لطبقتي الوعي واللاوعي: * ممثّل ١ هو الجزء الواعي الذي يتقدّم إلى الذات لأول مرة، يحمل الضوء في يده، يريد أن يرى ويكشف ويواجه. * ممثّل ٢، هو الجزء الكامن، طبقة اللاوعي، الذي يراقب ولا يظهر كاملًا. يتطوّر الحوار وتتداخل الصور وتتكرّر الأسئلة “من أنا؟ ومن أنت؟” وصولًا إلى جملة: “قد تكون روحي هي روحك… لديك ملامح تشبهني”، فتزداد فرضية قراءة الشخصيتين بوصفهما ذاتًا واحدة حضورًا واحتمالًا. يتقدّم العرض نحو منطقة الذاكرة عبر سلسلة حكايات تُروى والممثلان يحملان أحواض ملابس، ويعلّقانها على حبل الغسيل بعد كل قصة. يتحوّل هذا الفعل إلى رمز بصري لذاكرة معلّقة، وشذرات تتراكم فيها تجارب الذات عبر الزمن. في هذه الأثناء، يميل ممثّل ٢ إلى الغناء، كأنه الطبقة الندية من الذات التي تحاول تخفيف وطأة الذاكرة التي يحملها شطرها الآخر. ومع هذا التضاد، يتقدمان تدريجيًا نحو التماهي؛ فالحكايات تتداخل، والجمل تتقاطع، فيبدأ أحدهما فكرة ويكملها الآخر، حتى يصعب التمييز بين صوتين مستقلين. وهكذا يصبح تبادل الحكايات محاولة لترتيب الفوضى الداخلية: *ممثّل ١ يستحضر قصص الزيف والاتهام والفساد كصدمات قريبة. *ممثّل ٢ يستعيد قصص الفقر والحرمان بوصفها ذاكرة بعيدة. على مستوى العلامات البصرية، تشكّل الملابس أحد أهم مفاتيح القراءة التأويلية. فقد اختار المخرج أزياء فضفاضة بألوان أولية، تسمح بقراءتها كرموز على تقلبات المزاج والانفعال، وعلى تبدّل الأدوار بين صوتٍ حذر وصوتٍ متمرّد.. لا يظهر زي مكتمل أو مستقر، وكأن الذات تعجز عن تثبيت شكل نهائي لها. يتكثّف هذا التأويل عبر التبديل المستمر للملابس، بما يشبه محاولات الذات التخلص من جلدها القديم واختبار نسخ متعدّدة من نفسها، وفشلها في العثور على نسخة نهائية مرضية. تقدّم الحركة الثنائية في العرض مفتاحًا بصريًا آخر لقراءة الممثلين بوصفهما صورتين لجسد واحد منقسم؛ ففي معظم التكوينات يتحركان في خطوط متوازية أو متقابلة: أحدهما يغسل الملابس بينما يجثو الآخر، ويفعَلان الحركة نفسها بزمن مختلف، ويتبادلان المواقع فوق السرير وتحته، أو يجلسان فوق وعاءين متقابلين. يجعل هذا التوتر الحركي كل حركة تُقرأ كاستجابة نفسية، كأن الذات تحاول التطابق مع نفسها فتفشل، ثم تبتعد، ثم تعود لتستأنف محاولة التوافق. تبلغ الدلالة ذروتها حين يتّحدان في حركة واحدة ويضعان قدميهما في الموضع نفسه، ويقول أحدهم: “أصبحت لنا قدم واحدة… ستتوحّد خطواتنا” كلحظة رمزية مكثّفة تشير إلى سعي الشطرين إلى الاندماج داخل ذات واحدة، قبل أن يتفكك هذا التماهي مؤذنًا باستحالة الاستقرار على هوية موحّدة. يتكرّس هذا المعنى في الصراع الأخير تحت السرير؛ معركة ضيقة على المكان نفسه تُجسّد صراع النفس مع ذاتها حين تضيق بها طبقات الوعي. يعود السؤال: “من أنت؟” فيجيبه الآخر: “هل أعرف من أنا لأعرف من تكون أنت؟” يمثّل المشهد الأخير خلاصة مسار (الذات المنقسمة) الذي شيّده العرض منذ بدايته؛ فبعد ثنائية (تحت السرير/فوقه) بوصفها تمثيلًا للاوعي والوعي. ينهار هذا الانقسام تماماً حين يظهر الجسدان في النهاية متوازيين وملتصقين بخلفية قماشيّة بيضاء، كأنهما قد أُعيد تشكيلهما داخل طبقة واحدة من الذاكرة التي ظلاّ يصنعانها طوال العرض عبر تعليق قطع القماش بعد كل قصة. في هذه اللحظة التي يختفي فيها السرير وتذوب الحدود بين فوق وتحت، وتتجسّد العبارة التي قالها ممثّل ٢ سابقاً عن أنّهما دخلا في لعبة الحكي دون أن يصلا لما يبحثان عنه حتى أوشكا أن يفقدا نفسيهما؛ وكأن الذاكرة التي راكماها طوال الرحلة انتهت إلى احتجاز الذات بدل تحريرها. يبدو هذا التماثل الجسدي، والسكون، الميل ذاته، الضوء الأزرق البارد كحالة انطفاء داخلي مشترك تتساوى فيها قوتا الوعي واللاوعي بعد استنزاف الضوء والحركة واللغة، فيتجمّد الجسدان داخل ذاكرة واحدة تعيدهما إلى دائرة البداية التي افتُتح بها العرض. تصبح النهاية اعترافاً ضمنياً بأن رحلة البحث لم تُنتج كشفاً، بل دورانًا داخل النفس يفضي في النهاية إلى فقدانها. تأتي الإضاءة كعنصر دلالي حاسم في القراءة؛ إذ تتعامل مع الضوء بوصفه مخزونًا للطاقة النفسية. يحذّر ممثّل ٢ من استنزافه، بينما يصرّ ممثّل ١ على اقتحام العتمة بالشمع والثقاب. وما إن تُستنزف مصادر الضوء، حتى ينطفئ المشهد كله، في تقابلٍ بين نفاد الضوء ونفاد قدرة الذات على الاستمرار في رحلة البحث. تكشف “ضوء” في بنيتها الحركية والسينوغرافية واللغوية عن تجربة مسرحية تنطلق من الداخل الإنساني لا من خارجه؛ إذ يتبدّى العرض بوصفه تمثيلًا حيًا لصراع الذات مع طبقات وعيها، ومحاولة تفكيك علاقتها بالعتمة التي تستقر فيها، والضوء الذي تطمح إلى بلوغه. ومن خلال تحليل تناظر الجسدين، وتبادل المواقع فوق السرير وتحته، والطقس البصري المتكرّر لتعليق قطع القماش، تبيّن القراءة أنّ العرض يشتغل على إعادة إنتاج الذاكرة بوصفها فضاءً يتشكّل ويتحوّل ويتحكّم في حركة الشخصيتين باعتبارهما شطرين لذات واحدة. إن تداخل الحكايات، وتطابق الخطوات، وذوبان الحدود بين الصوتين، جميعها عناصر تؤكّد أن المسار الدرامي لم يكن بحثًا عن إجابة بقدر ما كان دورانًا داخل السؤال ذاته. وعليه، تخلص هذه القراءة إلى أنّ “ضوء” تُظهر تعثّر الذات في طريقها إليها، وارتدادها المستمر إلى مناطقها المظلمة. فالنهاية التي ينطفئ فيها الضوء وتتساوى الحركة والسكون تعيد تشكيل البداية نفسها، في دائرة مغلقة تؤكد استحالة الحسم بين طبقتي الوعي واللاوعي.