الشعر حين يكون خُلُقًا..

قراءة في ضمير مسكين الدارمي.

في زمنٍ كان فيه بيت الشعر هو بيتُ القبيلة و الشعر هو صوتها الذي يسبقُ الريح إلى الآفاق، حيث تمتد الرمال كخفقة دعاء و الخيام تنام فوقها كدمعة عاشق، هناك في مضارب بني تميم ولد شاعرٌ له ما للبدو من لهفة و ما للعين من صدق البوح إنه ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن دارم المعروف بمسكين الدارمي، و بنو دارم هم بطن من بطون قبيلة تميم العدنانية، هذا الشاعر الذي ينساب شعره عذباً بسيطاً كالماء الأول بلا زينة و لا مواربة، تتهادى قصائده على وزن الصدق و على إيقاع أنفاس الصحراء يسافر بها من خشونة البادية الى رهافة الوجدان فيسكنها في مدينة لم تولد بعد. لماذا مسكين؟ مسكين في اللغة هو من لا شيء له و من أسكنه الفقر حتى قلت حركته، و لُقّب به صاحبنا حتى ألفيناه يُلمحُ إلى عدم رضاه عن هذا اللقب فيقول: و سُميتُ مسكيناً و كانت لجاجة و إني لمسكينٌ إلى الله راغبُ و يرى صاحبُ الأغاني بأنه لُقّبَ مسكيناً لبيتٍ قاله و هو: أنا مسكينٌ لمن أنكرني و لمن يعرفني جدّ نَطقْ و أن الشعراء العرب كانوا يتلقبون بأبيات قالوها فنُبزِ بهذا البيت. على إننا نستشعرُ الغُصة التي تجلبها لفظة(مسكين)من دلالة الضعف و المسكنة في شعر الدارمي، في لقبٍ لا يراه أهلا له لنجدَ في شعره صدى ذلك إذ يقول: و إن أُدعَ مسكيناً فلستُ بمُنكَرٍ و هل ينكرن الشمس ذرّ شعاعها و هو القائل أيضاً و إن أدع مسكيناً فإني ابنُ معشرٍ من الناس أحمي عنهمُ و أذودُ الصدقُ أولاً في زمنٍ كثر فيه الادّعاء تتجلى رؤية مسكين الدارمي للعالم من خلال الصدق و الأمانة فالكلمة لا تكون شعراً إلا إذا كانت صادقة و الإنسان لا يكون كريماً ما لم يكن كريماً على قوله و فعله فنراه يقول: إن الكريم إذا ما كان ذا كذبٍ شانَ التكرّمُ منه ذلك الكذبُ الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعلُهُ لا شيء كالصدقِ لا فخرٌ ولا حسبُ تبدو هذه الأبيات أقرب منها إلى الحكمة المنغمسة في خبرة الحياة منها إلى الشعر، حكمة تقلب موازين الفخر القبلي إذ يرفع الصدق فوق النسب والحسب ويجعل الفضيلة أرفع من الانتماء، و نرى الشاعر فيها يكتب ليَطهُر لا ليُبهر. و في مقطوعة ثانية يقول: أصدق الناسَ إذا حدثتَهم و دعْ الكذبَ لمن شاء كذبْ ربَّ مهزولٍ سمينٍ بيته وسمينِ البيتِ مهزولِ النسبْ أصدق الناس إذا لاقيتهم تخلص الفضةَ منهم والذهبْ ببساطة متينة و إسلوبٍ بدوي أصيل و بهدوءٍ لغوي بعيدٍ عن الزخرفة استطاع الشاعر أن يحول القيم الأخلاقية إلى صورٍ شعرية بديعة، فدفء المباشرة في البيت الأول و جمال الطباق بين السمين و المهزول في البيت الثاني و علو التشبيه في البيت الثالث الذي جعل الصدق بمثابة النار التي تمتحنُ المعادن و تُميز بين الذهب و الفضة أعطت هذه المقطوعة سرَّ جلالها و جمالها. و في مقطوعة أُخرى يقول: وفتيانُ صدقٍ لستُ مطلعُ بعضهم على سرّ بعضٍ غير إني جماعُها يظلون شتّى في البلاد وسرّهم إلى صخرةٍ أعيا الرجال انصداعها لكل امرئٍ شِعبٌ من القلبِ فارغٌ وموضعُ نجوى لا يُرام اطلاعُها في هذه المقطوعة يرتفع الشاعر من مستوى السلوك إلى عمق النفس الإنسانية إذ تجاوز فيها الخطاب الأخلاقي التقليدي إلى التأمل الوجودي المتفرد، فهو يرى الصدق ليس مجرد قول بل طبيعة باطنية متجذّرة في كينونة القلب مما يجعل هذه الأبيات من أوائل النصوص التي تلامس النزعة الصوفية في العصر الأموي. وجه الكريم خصيبٌ الكرم عند شاعرنا ليس مجداً قبلياً يتوارثه الأجيال و لا عادة يُجبل عليها الإنسان بل سمةٌ مكتنزةٌ تضيء السلوك الإنساني و تمنحه منزلة النُبل، فهو يرى الكرم في إشراقة الوجه قبل إشراقة المائدة و في دفء الملامح قبل دفء المُتكأ فنراه يقول: أُضاحكُ ضيفي قبل إنزالِ رحلِهِ و يخصبُ عندي و المحلُ جديبُ و ما الخصبُ للأضيافِ أن يكثرَ القِرى و لكنّما وجهُ الكريمِ خصيبُ إن رهافة الأبيات تحول الكرم إلى معنى روحي يقود إلى الرضا الداخلي و هو ما يعكس صدق الشاعر و عفويته بعيداً عن التكلف ليمنح الأبيات جذوة إنسانية نادرة. و نراه يقول في مقطوعة أُخرى في المجدِ غرتنا مُبينَةٌ للناظرينَ كأنها البدرُ لا يرهبُ الجيران غدرتَنا حتى يُواري ذكرَنا القبرُ ناري و نارُ الجارِ واحدةٌ و إليه قبلي ينزلُ القدرُ ما ضرَّ جاري إذ أجاورُهُ أن لا يكونَ لبيتهِ سترُ أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يُواري جارتي الخدرُ و يصمُ عما كان بينهما سمعي، و ما بي غيره وقرُ و هل بعد هذا الجمال جمال؟، فصاحة بلا تكلف و بلاغة دون إسراف تجلت في هذه الأبيات التي تُعتبر من أجمل ما قيل في الفخر الأخلاقي في الشعر العربي فهي تمثل تكامل الكرم (في المال و النفس و العرض) و هذا لعمري أرقى القيم العربية العليا و أنقاها التي تؤسس لميثاق جمالي للعفة و الكرم و المروءة. ما تجاوز الأُفق إن لمسكين الدارمي حصته من الأبيات التي تناقلتها الألسن و ركبت السُلّم الموسيقي و تغنت بها الحناجر و أشهرها: قُل للمليحة في الخمارِ الأسودِ ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبدِ قد كان شمّرَ للصلاةِ ثيابه حتى قعدت له بباب المسجدِ و كذلك له أبيات دخلت في أبجديات الزمن و طارت مثلاً عبر الحِقب و مما قال في هذا الصدد: أخاك.. أخاك إن من لا أخاً له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح و إن ابن عم المرء فاعلم جناحه و هل ينهضُ البازي بغير جناحِ بين أبناءِ العم و من الجدير بالذكر في معرض الحديث عن مسكين الدرامي خلافه مع الفرزدق و تهاجيهم الذي أسرع شيوخ بني دارم و بني مجاشع و هما من بطون تميم في تلافيه و اتقائه فقد كان يجمعهما نسب ناشب و هما من سادات قومهم و أشراف عشيرتهم، و كثيرا ما أعلن الفرزدق بعد ذلك عن فرحه في إنهاء هذه المهاجاة فقد ورد عنه في الأثر قوله: (نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئاً، نجوت من زياد حين طلبني و من ابني الرميلة و قد نذرا دمي و ما فاتهما أحد طلباه و من مهاجاة مسكين الدارمي لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبي لأنه من بحبوحة حسبي، فكان جرير حينئذ ينتصف مني بيدي و لساني). عاش مسكين بسيطًا كاسمه، وعميقًا كشعره، فصار صوته شاهدًا على أن البداوة ليست ضياعاً، بل صفاء يُشرق من الحرف كما يشرق الفجر من خلف اللون ولذا ظلّ شعره طريًّا كأنه وُلد بالأمس لأنّ ما كُتبَ بالصفاء لا يشيخ وما خرجَ من القلب لا يضيعُ في زحمةِ القرون. * شاعر وكاتب عراقي