ليست المهرجانات الكبرى، وعلى رأسها المهرجانات السينمائية التي تُعد الأكثر إبهاراً بعد الفعاليات الرياضية العالمية، مجرد أسابيع عابرة من العروض والسجادة الحمراء؛ بل هي كيانات ثقافية واقتصادية تسعى لتكون منصة دائمة للتبادل والتأثير. فبين وهج الافتتاح وتألق الختام، يكمن جوهر الفعالية ككيان حي ومستدام، يسعى للحفاظ على أثره وثراء فعالياته لضمان عدم “مروره مرور الكرام” في بحر الفعاليات المشابهة محلياً وعالمياً. إن استدامة النجاح لأي حدث كبير تتوقف على استراتيجية واضحة تتجاوز الحشد الإعلامي لتصل إلى عمق القياس والتقييم. الإثراء المتواصل: جسر بين الفعاليات لضمان ألا يقتصر وجود المهرجان أو الفعالية على فترة زمنية محددة، يجب أن يتحول إلى منصة مستمرة للإثراء والتطوير. يتحقق هذا عبر إطلاق برامج إقامة فنية أو ورش عمل متقدمة وتمويل مشاريع تمتد لشهور خارج موعد الحدث الرئيسي. هذا النوع من الاستثمار في التأثير الممتد يحول الحدث من عرض لمرة واحدة إلى مؤسسة ثقافية تعليمية تخلق قاعدة جماهيرية ومهنية ملتزمة بكيانه على مدار العام. كما يساهم تنظيم عروض دورية لأفلام فائزة سابقة وتوقيع شراكات أكاديمية في منح الفعالية عمقاً ثقافياً وفكرياً يدوم طويلاً. استدامة النجاح: ركائز التقييم والتقويم يكمن مفتاح تحويل النجاح اللحظي للمهرجان إلى استدامة دائمة في تطبيق منهجية دقيقة للقياس تشمل الجانبين الكمي والنوعي: 1. التقييم الكمي (العددي): قياس الوصول والانتشار يجب أن تعتمد الفعاليات الكبرى على مقاييس عددية واضحة لتقييم مدى وصولها وفعاليتها، تشمل: * قياس الجمهور والحضور: العدد الإجمالي للحضور، ومعدل الإشغال في قاعات العرض، والزيادة العددية في عدد الحضور من عام لآخر، مما يعكس نمو القاعدة الجماهيرية. * قياس التأثير الاقتصادي: احتساب حجم الإنفاق المباشر وغير المباشر في المدينة المستضيفة، وقيمة صفقات الإنتاج المشترك التي تمت على هامش الفعالية، مما يبرر الجدوى الاستثمارية للحدث. * قياس الحضور المهني: عدد الموزعين، والمنتجين، وصناع القرار المسجلين، ونسبة المشاريع التي حصلت على عقود أو تمويل بعد المشاركة، مما يقيس فعالية المهرجان كسوق ومنصة عمل. 2. التقويم الكيفي (النوعي): قياس الأثر العميق والقيمة المضافة إلى جانب الأرقام، يجب أن يخضع المهرجان لتقويم نوعي يقيس جودة التجربة وعمقها، مما يمنحه ميزة تنافسية: * جودة البرامج والمحتوى: تقييم نوعية الاختيارات الفنية ومدى جرأتها وتنوعها، والتركيز على مدى التزام المهرجان بـ “هويته المتخصصة” المعلنة وقدرته على تقديم قيمة مضافة فريدة في المجال. * جودة التجربة المهنية: إجراء استطلاعات رأي معمقة للمشاركين لتقييم جودة الورش والندوات، وقدرتها على تطوير المشاريع والأعمال فعلياً من الفكرة إلى التنفيذ. * الأثر الثقافي والفكري: قياس مدى استمرارية النقاشات الفكرية التي يثيرها المهرجان خارج أروقته، ومعدل دمج مخرجاته في البرامج الثقافية والتعليمية المحلية والإقليمية. أمثلة عالمية وعربية وسعودية في سباق الاستدامة توضح نماذج المهرجانات حول العالم أهمية الاستدامة في البقاء على القمة. عالمياً، تقف مهرجانات مثل مهرجان كان السينمائي (Cannes Film Festival) ومهرجان البندقية السينمائي (Venice Film Festival) كأمثلة على القوة الاقتصادية والمنهجية المتبعة في دعم الإنتاج المشترك طوال العام. أما إقليمياً وعربياً، فقد رسخت مهرجانات عريقة مثل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومهرجانات صاعدة بقوة مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ومهرجان الجونة السينمائي وجودها عبر التخصص في دعم المواهب الإقليمية، وتوفير أسواق الإنتاج. محلياً، يُعد مهرجان أفلام السعودية نموذجاً ناجحاً لفعالية محلية تعمل باستمرار على دعم وتمكين الجيل الجديد من صانعي الأفلام السعوديين على مدار العام، مما يؤكد أن الاستراتيجية الفعالة للقياس والتقويم هي لغة مشتركة لكل هذه الفعاليات مهما اختلفت أحجامها ونطاق تأثيرها. *خاتمة محفزة: استدامة الإبهار إن بقاء أي مهرجان كبير ليس رهناً بكمية الأضواء المسلطة عليه ليلة الافتتاح، بل هو مرهون بقوته في التحول إلى مؤسسة ثقافية واقتصادية تعمل بلا انقطاع. المستقبل ينتظر تلك الفعاليات القادرة على دمج الإبهار البصري بالعمق المعرفي، والاحتفاء اللحظي بالتأثير الممتد. عندما تتبنى الفعاليات الشفافية في قياس أرقامها، والعمق في تقويم تأثيرها النوعي، فإنها لا تضمن فقط عدم مرورها مرور الكرام، بل تتحول إلى قوة دافعة للإبداع ومنارة للإثراء الثقافي. وهكذا، ترسخ هذه الفعاليات مكانتها عالمياً، ووداعاً لمجرّد تأثير مرّ وعبر.