الكتابة رحلة فكرية بلغة أدبية.
•لمن نكتب؟ ولماذا هذا النوع من الكتابة؟ هناك أسئلة جذرية تُحدد طريق الكتابة لأحدنا مثل: لمن نكتب؟ لماذا هذا النوع من الكتابة؟ سُئلتها كثيرًا في لقاءات وحوارات بصيغٍ مختلفة، وفي كل مرة أتذكر عبارة الروائي الأمريكي ديفيد بالدتشي “ لاتقع في خطأ أن تكتب ما تعتقد أن الجماهير ستقوم بشرائه. اكتب للشخص الذي تعرفه جيدًا، اكتب لنفسك “، فعندما قرأتها لأول مرة فكأنما وجدت رفيقًا أنيسًا في رحلة بحرية تُغرقها أضواء الشهرة والجماهير دون اكتراث لضوئها الداخلي. والأصل في الكتابة أن يقترب الكاتب من القراء بما يكتنزه من فرادة لغوية وإبداعية تؤهله لاستنطاق الأفكار والقضايا الأكثر أهميةً وجدلًا بالنسبة إليه باستخدام الجنس الكتابي المناسب. تقول الروائية الأمريكية سو غرافتون: “أنا كاتبة مثابرة، وأيضًا مرعوبة “، عبارتها تمثلني كثيرًا. أصاب بقلق بعد الانتهاء من الكتابة، أترك العمل لأشهر ثم أعود إليه، أراجعه وأعدل مايلزم، ولابد أن أبعثه سريعًا للنشر والطباعة! فلو تأخر قليلًا، لن يصدر في الوقت المحدد لأن المادة ستظل تتطور وتتغير! في هذه اللحظة لابد لفرض التوقف وقرار حاسم بالنشر! أشعر في الحقيقة بنمو سريع في طاقتي الفكرية وقدراتي الكتابية ولهذا ألمس تفاوتًا هائلًا بين أعمالي ونصوصي بين فترات متقاربة فضلًا عن المتباعدة، فلم يمضِ على كتابي الأخير غير أشهر قليلة، وقد تملكتني رغبة في إعادة تحريره مع تطويره! أعرف جيدًا تشخيص حالتي الفكرية والنفسية والإبداعية! أعرف جيدًا لماذا ينتابني هذا الشعور، وأعرف بأن العلاج أن أمضي لعمل آخر. •دراسة مُضاعفة للأدب الإنجليزي في عام 2011 تخرجت من الجامعة بدرجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي بعد أن درسته بكلية الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض، ثم انتقلتُ إلى كلية الآداب والتربية بجامعة الملك فيصل بالأحساء، درست المقال والشعر والقصة والنوفيلا والرواية من الأدب الإنجليزي و بعض النماذج من الأدب الأمريكي. عرفتُ من تلك الدراسة التي تضاعفت سنواتها عليّ بشكل استثنائي؛ أن الدين عامةً يحضر بشدة في الأدب الإنساني العالمي، ويبرز في السرديات الأدبية والسيّرية بشكل أو بآخر كمكون أساسي للفكر والهوية، كما أن الميثالوجيا تُسيطر على فكر المجتمعات كافة وفقًا لسياقاتها الثقافية والتاريخية المتباينة، وأن قراءة الإنسان للأحداث مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوعيه وقدرته على التأمل والتفكير المنطقي والقراءة النقدية، وفي ذلك كله لا يمكن أن نغفل أثر الدين في تفسير الإنسان للأقدار والأحداث الواقعة من حوله. تأثرت بنوعية الأعمال الأدبية التي درستها، وعرفت أهمية القضية الجوهرية في الأعمال الأدبية، ومدى إمكانية إظهار الطبقات الفكرية والقيم الدينية بطريقة إبداعية ناهضة، ذلك لأنها تعكس صورة من صور الإنسان ووجهًا من وجوه حياته. وفي دراستي - ثلاث مرات - لرواية « روبنسون كروزو « 1719، لدانييل ديفو 1660 – 1731 التي تعتبر من أهم روايات الأدب العالمي، وجدت فيها تجسيدًا لظروف عصرها وانعطافاته الفكرية والدينية آنذاك، بسردها المُتخيل لحياة شاب اسكتلندي، اختار التمرد على الأسرة إعلاءً لقيّم الفردانية الناهضة في العصر السادس عشر الميلادي، والعيش في مغامراتٍ بحرية لم تنتهِ بسهولة كما بدأت. فقد استطاع بها إبراز حياة العزلة على جزيرة نائية، والأحاديث مع الإله الذي يسمعه ويستجيب لندائه، تعلو مناجاته في أصعب اللحظات وأشدها انغلاقًا، ما يدعوه للتساؤل عن تأخر الاستجابة، فيتقرب لربه بالعمل الخيّر. هكذا يحضر الدين وتبرز الحاجة لوجود إله في اللاوعي البشري، تأكيدًا على وجوديته الأصلية في الإنسان. وقد استوقفتني هذه القراءة لتأمل حياة إنسان غربي بمسيحيته البروتستانتية، فكلما ألهته الحياة عن إلهه، ذكّره الإعصار وأمواج البحر المتلاطمة بوحدته وضعفه وحاجته لقوة مطلقة تنجيه من أهوال البحر. أليس هذا شبيه بما يحدث لنا جميعًا؟! إذًا الله حاضر في روح الإنسان بصرف النظر عن عرقه ودينه وثقافته، إنما بناءً على اللحظة التي قد تُظهر ذلك أو تُخفيه، فيعي الفرد تلك الحقيقة أو لا يعيها لقصورٍ فيه. وقد كان درسًا من أقوى الدروس التي خرجت بها من الدراسة، لأشق بعد ذلك طريقي في القراءة الحرة والكتابة على نحوٍ يشبهني ويليق بطبيعتي الفكرية والإبداعية. •قراءة الكتب بين ذاكرة النص وذاكرة الأفكار لست كائنًا نصيًا ولا تلقينيًا، أقرأ كثيرًا، وأنسى النصوص كثيرًا، الأفكار هي من تبقى في رأسي. ولأن هناك دائمًا قائمة لامنتهية من الكتب، وأعرف أن ذاكرتي ستبدأ بفقدان الملفات المقروءة سريعًا، تحديتها بالكتابة - بقدر المستطاع طبعًا - فلا يمكنني الكتابة عن كل كتاب أقرؤه، لكني اعتمدت طريقة الموجزات لأتحدى خيانة الذاكرة، قرأت وكتبت في مختلف الأجناس الأدبية. توسعت قراءتي من كتب الأدب إلى كتب من العلوم الاجتماعية والسياسية والفلسفة. أشعر بالضعف أحيانًا عندما أجدني لم أقرأ كل الروايات الشهيرة والحائزة على جوائز هامة، أحاول تقليل قراءاتي خارج الأدب، ولكن دون جدوى! تعترضني كتب مهمة تختطفني بالقوة من مادتي الأدبية لأقرأها ويمتلئ رأسي من فكرتها. لا تكفيني قراءة السرد لوحده، أحتاج دائمًا لأدوات النقد والتفسير والتحليل لأحقق الفهم. وعلى إثر هذه القراءة، عرفت أن ما يواجه الإنسان من ظروف اجتماعية وسياقات ثقافية وتاريخية لها الأثر البالغ في صناعته الفكرية مع اعتبار أنّ لكل إنسان سياقًا خاصًا، وأن الوعي بهذا المعنى حسّاس وسالكه محال إلا أن يشعر بغربة، لأن الناس كجماعات لايريدون تغيير قناعاتهم وتبديل نتائجهم والإخلال بمعارفهم، فالمعرفة تتطلب ثمنًا باهظًا، والشك والتغيير من الأمور التي تهز منطقة الراحة مما يدفع بالإنسان للثورة أمام الهزة البسيطة للمسلمات المتراكمة لدرجة التكلس، فهو يفرح بالوهم المريح أكثر، وهنا تكمن صعوبة تحريك القيم والأفكار السائدة لعقود طويلة. و الإشكالية أن هذا الركون له انعكاساته التراكمية السلبية جدًا، وقد لمسنا ذلك بأنفسنا، فأصبحنا شهودًا على مكابدة دفع الإنسان للثمن، الذي قد يتسبب في إهدار العمر كاملًا، وتضييع فرصة الحياة بجودة عالية وتوازن معتدل. شعرت بإحباطٍ وألم شديد أمام بعض القراءات، وبتفاؤل وأمل مع قراءات أخرى. وفي كل مرة يكون القرار أن أكتب. لابد أن أكتب ليس ما يريده الجمهور، بل ما تريده ذاتي، أو كما عبر عنه بالدتشي “ اكتب للشخص الذي تعرفه جيدًا. اكتب لنفسك “.