الصورة التي لا يراها أحد.

نعيش اليوم في زمنٍ تتداخل فيه الأدوار، وتتسارع فيه الأيام إلى درجة تجعل الإنسان يبتعد شيئًا فشيئًا عن صورته الحقيقية. كلٌّ منا يحمل نسختين من ذاته: صورة يراها العالم بكل ما فيها من تماسك وأناقة وثبات، وصورة داخلية لا يطّلع عليها أحد، تسكن في أعماق الروح حيث الأسئلة غير المكتملة، والمشاعر التي لا تجد دائمًا طريقها للظهور. هذا الصراع الإنساني ليس جديدًا، لكنه أصبح اليوم أكثر وضوحًا بفعل الحياة الحديثة التي تشترط حضورنا الدائم حتى لو كنّا منهكين من الداخل. كثيرًا ما نخدع أنفسنا حين نعتقد أن الآخرين يعرفوننا. يرون إنجازاتنا، خطواتنا الواثقة، صورنا المرتبة، وظهورنا الاجتماعي. لكن الوجه الذي يواجه العالم ليس بالضرورة الوجه الذي نواجه به أنفسنا. هناك جزء لا نُظهره، ليس لأننا نخجل منه، بل لأن العالم لا يمنح مساحة كافية للصدق العميق. نعتاد أن نبدو بخير، حتى في الأيام التي لا نشعر فيها بذلك. نعتاد أن نصمت عن خوف، أو نبتسم بدافع العادة، أو نقف بدافع الواجب. وهكذا تتعمق الفجوة بين ما نُظهره وما نعيشه. هذه الفجوة كانت أحد الأسباب التي دفعتني، حين بدأت كتابة كتابي “من جدة… إلى العالم – تجارب ومواقف صنعتني”، إلى أن أتأمل الصورة الداخلية التي أخفيتها طويلًا تحت طبقات المسؤوليات والدور الإعلامي والاجتماعي. اكتشفت أثناء الكتابة أن الإنسان لا يتهشم من الخارج بقدر ما يتعب من الداخل. وأن الحقيقة التي يخاف مشاركتها مع العالم قد تكون أكثر جمالًا وإنسانية من الصورة المصقولة التي يحرص على إظهارها. وجدت أن داخل كل موقف عشته، وكل درس تعلمته، ملامح لامرأة أكثر صدقًا وأقل ضجيجًا—امرأة لم أرها إلا حين أمسكت بالقلم وسمحت للروح أن تتحدث بحرية. الكتابة كشفت لي أن الصورة التي لا يراها أحد هي التي تصنعنا فعلًا. هي التي تخبرنا أين نتألم، وأين نقاوم، وأين نحتاج إلى أن نتوقّف قليلًا لنستعيد أنفسنا. وهي أيضًا التي تعلّمنا أن القوة ليست في الظهور المتماسك، بل في مواجهة تلك الصورة الخفية بكل ما فيها من هشاشة. لحظات الإنسان الأكثر صدقًا تحدث في عزلةٍ لا يسمعها أحد: دمعة آخر الليل، سؤال لا نملك له جوابًا، ذكرى تعود فجأة فتربك القلب، أو خوف نحاول تجاوزه بصمت. هذه اللحظات لا تظهر في الصور، لكنها أكثر حقيقة من كل ما يراه العالم. ومع ذلك، لا يمكن أن نحيا بصورة واحدة فقط. ليس مطلوبًا أن نكشف كل شيء، ولا أن نتخفّى عن كل شيء. التوازن بين الصورتين هو ما يمنح الإنسان نضجه وهدوءه. فمن حقنا أن نحتفظ بأجزاء من أرواحنا لأنفسنا، وأن نترك للعالم النسخة التي تخدم حياتنا اليومية. لكن من الخطأ أن ننسى أصلنا، أو أن نذيب أنفسنا تمامًا في الصورة الخارجية حتى نفقد صوتنا الداخلي. ومع مرور الوقت، ندرك أن الأشخاص الأقرب إلى قلوبنا ليسوا أولئك الذين يعجبون بالصورة التي نقدّمها، بل الذين يلمسون ما وراءها. الذين يفهمون الصمت، ويقرأون التعب، ويرون الحقيقة دون أن نضطر لشرحها. هؤلاء هم الذين يصلون إلى الصورة الثانية، الصورة الصادقة التي نخبّئها بعيدًا عن الأنظار. ربما أجمل ما نتعلّمه هو أن الإنسان لا يحتاج أن يعرض كل ما فيه، لكنه يحتاج ألا يخسر نفسه أمام العالم. يحتاج أن يتذكر الصورة التي عاش بها، الصورة التي حملته في لحظات ضعفه، الصورة التي كتبها بصوته الحقيقي كما فعلت حين قلت في كتابي إن التجارب لا تصنع ملامحنا فحسب، بل تكشف ملامحنا التي حاولنا إخفاءها طويلاً. في النهاية، ليست المشكلة أن الناس لا يرون حقيقتنا، بل أننا نحن أحيانًا لا نمنح أنفسنا فرصة لرؤيتها. الصورة التي نخبّئها ليست عيبًا ولا ضعفًا، بل هي امتداد لما نحن عليه فعلًا. وإذا كان العالم لا يرى ذلك، فهذا لا يعني أنها غير موجودة، بل يعني أنها جزء خاص من الرحلة… لا يشبه إلا صاحبه. وربما يكفي أن نكون صادقين مع هذه الصورة، لأن الإنسان حين يتصالح مع نفسه، يصبح أقرب إلى السلام وإلى الحياة التي تشبهه حقًا.