لا تتجاوز حدود النعل.
قرأت قصة فحواها إن رساماً يونانياً يُدعى أبيليس عرض لوحاته في الأماكن العامة ، أي إن جميع من يمر في الشارع قد يقف ويشاهد ، حتى لو لم يكن مهتماً بالفن التشكيلي أو يعرف شيئاً من مدارسه ، وهذا ما حدث فعلاً حينما مرّ (إسكافي) ولفت نظره هذه التجمع حول هذه اللوحات فقاده الفضول للمشاهدة ، فتنبه الإسكافي (بحكم التخصص) إلى خطأ لرسم الحذاء في إحدى اللوحات، أبلغ هذا الإسكافي الرسام بالخطأ ، مما دفع الرسام لشكره أمام الجمهور وقام بتصحيح الخطأ ، شعر وقتها الإسكافي بالزهو ، وملأته نظرات الإعجاب بثقة هائلة جعلته يتمادى في تقديم المزيد من الملاحظات حول أخطاء أخرى رآها في اللوحة ، فكان رد الرسام بجملة أصبح ما يٌشبه الأمثال فيما بعد ، إذ قال مخاطباً الإسكافي : «أيها الإسكافي، لا تتجاوز حدود النعل.»! هذه القصة تختزل كثيراً مما يحدث في « السوشال ميديا» التي أصبحت هي المنبر الإعلامي المُتاح للجميع ، فالجميع – بلا استثناء – يستطيع أن يقول عنه نفسه إعلامي ، وإن أردت أن تكون ناقداً أو أديباً أو فيلسوفاً ، فما عليك إلا أن تنوي ذلك وتجاهر بنيتك وستكون كذلك، وتتحدث في كل فن كي تأتي بالعجائب، ففي قانون « السوشال ميديا» كلما جئت بالعجائب (جبت العيد!) فستكون أكثر نجومية ، وقتها يمكن أن تتباهى بمعرفتك بأن الاورجوياني (داروين نونيز) هو صاحب نظرية التطور ، ولن يكون أبيليس موجوداً ولو (بمعرّف وهمي) ليصرخ : لا تتجاوز حدود النعل! أنا شخصياً لا أنوي أن أكون أبيليس (الرجيم!) ليس لأنه لا قدرة لي على مواجهة (الإسكافية) ، لكني أقيم بين ظهرانيهم وأشاركهم الكثير من الهوايات ، وينبهونني على كثير من الأخطاء ( من وجهة نظرهم ) التي أتعمد ارتكابها ، الغريب إن (الإسكافي الألكتروني) لو قلت له لا تتعدى حدود النعل ، فسينفعل ويقول لك : ارفع رأسك عندما تحدثني لا تنظر إلى النعل ولكن انظر إلى رأسي الفارغ! المعضلة الحقيقية إن أبيليس الآن أصبح يخشى الإسكافي ويجامله على حساب فنّه وقناعاته، فالإسكافي لديه من الأتباع قوة مرعبة، يرونه الرمز الكبير، ومستعدون أن يعيدوا ترتيب العالم لأجل سيدهم ، كيف لا وهو الذي أراحهم من عناء التفكير والـتأمل فأصبح وأمسى يقول لهم وعنهم ما يريدون قوله ! هنا يبرز سؤال أظنه منطقياً : هل من المناسب أن يعرض ابيليس لوحاته في مكان عام ليشاهدها ويقيمها الجميع، أم أن المنطقي أن يعرض لوحاته في معرض يستهدف النخبة من أهل الفن والثقافة؟ ، لا أريد أن أطرح أسئلة من شاكلة : هل المفترض أن «ينزل» النخبوي للشارع ، أم أن الشارع هو الذي مفترض أن يحاول الصعود للنخبوي في البرج الشهير! والحقيقة أنه في مرات كثيرة وجدنا الشارع والفن والثقافة في وئام وصلح، ففي السرد يكون الشارع حاضراً دوماً، وفي الفن الشعبي « أمرّ شارعكم واسلّم على البيت .. وأقول هذا بيت زين الوصوفي» !، وفي الذاكرة كثير من هذه الأمثلة التي لو أطلت بتعدادها فربما سأتجاوز حدود الشارع!