الحوكمة في السعودية .. ثقافة دولة.
تتسابق الأمم نحو نماذج أكثر كفاءة و شفافية و سرعة، و اختارت المملكة أن تُعيد تعريف الدولة نفسها لا بالشعارات .. بل بالحوكمة التي جعلت من رؤية 2030 مشروعاً إصلاحيّاً شاملاً، يعيد ترتيب البيت من الداخل قبل أن يطلّ على العالم من جديد. اليوم، لم تعد الحوكمة برنامجاً إداريّاً يُدار من خلف المكاتب، بل أصبحت ثقافة دولة، و طريقة تفكير، و منهجاً ينظّم علاقة المواطن بالمؤسسة، و يخلق بيئة تُدار فيها المصالح العامة بدقةٍ لا تقبل الفوضى، و لا تسمح للعشوائية أن تُبطئ حركة وطنٍ اختار أن يقود لا أن يُقاد. أولًا - حين يصبح الأداء معياراً .. لا المجاملة: قبل انطلاق الرؤية، كان النظام الإداري في المملكة يعمل بكفاءةٍ مقبولة، لكن لا تليق بطموح بلدٍ يريد أن يكون في مصافّ القوى الاقتصادية الكبرى. التحول لم يبدأ من الخطط .. بل من الجرأة على إعادة هيكلة الأداء نفسه: تقييمات مستمرة، و قياسٌ دوري، و مؤشرات أداء دقيقة، و مساءلة لا تستثني أحداً. و النتيجة .. قفزة من المرتبة 80 عالمياً في الكفاءة الحكومية إلى المرتبة 36، مع هدف معلن بالوصول إلى أقوى 20 دولة في كفاءة الحكومة. هذا التحسن لم يكن تقنياً فقط.. بل انعكاساً لفلسفة عميقة .. أن الدولة يجب أن تعمل بنفس سرعة طموح المواطن، و بنفس انضباط تطلعات القيادة. ثانيًا - الشفافية .. قلب الحوكمة و شرط النهضة: لا مستقبل لدولة لا تُظهر دفاترها للناس ، و في السعودية .. لم تعد الشفافية خياراً سياسياً، بل مبدأ سيادي. تطوير منظومة «نزاهة» .. نشر التقارير المالية و الإدارية بشكل دوري .. إرساء قواعد صارمة للإفصاح.. و الأهم تطبيق المساءلة على الكبير قبل الصغير. القفزة من المركز 55 إلى المركز 26 في مؤشر مدركات الفساد جعلت المملكة من أكثر الدول تقدمًا في هذا المجال خلال فترة قصيرة، و جعلت ثقة المواطن و المستثمر ترتفع مع ارتفاع ترتيب الدولة. الشفافية هنا ليست أداة رقابية فقط .. بل هي أرضٌ صلبة تُبنى عليها الثقة بين المواطن و مؤسسات دولته. ثالثًا - التحوّل الرقمي .. حين أصبحت الدولة في جيب المواطن: التحول الرقمي لم يكن تحديثاً للخدمات .. بل إعادة اختراع لطريقة عمل الحكومة. كانت المعاملة تحتاج أياماً .. و قد تحتاج أسابيع. اليوم، تُنجز خلال دقائق عبر «أبشر»، و «ناجز», و «إحكام»، و «مدد»، و غيرها من المنصات التي صنعت ثورة خدمات حكومية تُضاهي أفضل النماذج العالمية. تحويل 80% من الخدمات إلى رقمية، و تصدّر المملكة مؤشر نضج الخدمات الحكومية الإلكترونية لعام 2024، يعني أنّ الدولة لم تُسرّع الإجراء فقط .. بل أعادت هندسة الإجراء من أساسه. أصبح المواطن لا يذهب إلى الدولة.. بل الدولة هي التي تأتي إليه عبر هاتفه. رابعاً - إعادة هيكلة الأجهزة .. شجاعة القرارات الكبرى: الدول لا تُبنى بالتجميل .. بل بالجراحة ، و المملكة اختارت أن تُجري ما يلزم من عمليات إصلاح عميقة في بنية الحكومة نفسها .. دمج وزارات، و إنشاء هيئات جديدة، و مراجعة الصلاحيات، و تشكيل مراكز مثل مركز تحقيق كفاءة الإنفاق و مركز أداء. هذه الخطوات لم تُبسّط الإجراءات فقط .. بل منعت التداخل، و ألغت الازدواجية، و حوّلت الموارد العامة إلى قوة إنتاجية بدل أن تكون عبئاً مالياً. إعادة الهيكلة كانت إعلاناً واضحاً .. أن الدولة لن تسمح بأن يُعيق مسارها أي جهازٍ بطيء، أو إدارةٍ مترهلة. خامساً - القطاع غير الربحي .. المجتمع شريك في التحوّل: التحوّل الوطني لا يُبنى بالحكومة وحدها .. بل بالمجتمع كله. لهذا فتحت الدولة المجال للقطاع غير الربحي ليصبح عنصراً فاعلًا: رفع مساهمته من أقل من 1% إلى 5% من الناتج المحلي .. و زيادة عدد المتطوعين من 11 ألفًا إلى أكثر من مليون متطوع خلال سنوات قليلة. هذا لا يعني نمو القطاع فقط .. بل نمو الوعي، و نمو الإحساس بالمسؤولية، و شعور المواطن أنّه جزء من مشروع بناء الدولة. إنجازاتٌ تصنع دولة جديدة .. لا جهازاً جديداً: المرتبة الثالثة عالمياً في التنافسية الرقمية .. الأولى عربياً و الـ 13 عالمياً في الحكومة الإلكترونية .. تقليص وقت التراخيص من 53 يوماً إلى ساعة واحدة .. هذه الأرقام ليست مفاخرة .. بل دلائل دامغة على أنّ الحوكمة تحوّلت إلى ممارسة يومية يعيشها المواطن و المستثمر و الموظف الحكومي في كل خطوة. الحوكمة ليست إصلاحاً .. بل جهاز مناعة للدولة.. الحوكمة في رؤية 2030 ليست تحديثاً إدارياً يراد له أن يبدو جميلاً في التقارير .. بل منظومة دفاع و بناء في آنٍ واحد. هي ما يجعل الدولة سريعة دون فوضى، قوية دون مركزية ،مفرطة مرنة دون هشاشة ، و قادرة على مواجهة المستقبل بثقةٍ لا تهتز. بهذه الحوكمة، أصبحت المملكة دولة مؤسسية متقنة .. لا تعتمد على الأشخاص، بل على الأنظمة. و أصبحت رؤية 2030 ليست مشروع تحول فقط .. بل مشروع تعزيز لمكانة وطنٍ يريد أن يقود المنطقة و يضع بصمته على العالم.