يزوره المسلمون لتذكر مرحلة مفصلية في التاريخ الإسلامي:
مسجد الفتح بالجموم.. عاد كتحفة معمارية بعد مشروع الأمير محمد بن سلمان.
يحمل مسجد الفتح بمحافظة الجموم بمنطقة مكة المكرمة، أهمية تاريخية بارزة إذ يرجح أنه المسجد الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفتح الذي يوافق السنة الثامنة من الهجرة النبوية الشريفة. يقع المسجد بمحافظة الجموم، التي تبعد 25 كلم تقريبًا عن المسجد الحرام، وعلى بعد 260م فقط عن طريق المدينة المنورة الرابط بين مكة المكرمة والمدينة النبوية، وكان أول من ذكره بوضوح إبراهيم بن إسحق الحربي المتوفى سنة 285هـ في “المناسك”، لكن المسجد كان يتعرض للخراب والهدم نتيجة الإهمال لسنوات طويلة، ويعاد تعميره بموجب تبرعات السلاطين ونحوهم، وفي عام 1365هـ، خلال أزمة الجموم الخانقة بسبب الحرب العالمية الثانية، كان خرابًا ويهابه الناس ظنًا بوحشته وأن الجن تسكنه، ما يدل على أنه كان دائرًا منذ سنوات طويلة. نزول النبي وجيشه به قبل الفتح تشير المصادر التاريخية إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الوادي الذي كان يعرف باسم “مرّ الظهران” لدى قدومه من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة في العام الثامن من الهجرة، ومعه قرابة عشرة آلاف من الصحابة، فنزل فيه عشاء قبل ليلتين من فتح مكة، ثم أمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وذلك لإظهار القوة وإخافة الأعداء حتى لا يظهروا أي مقاومة، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي مكان مسجد الفتح حاليًا، التقى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان الذي خرج يلتمس الأخبار مع بعض زعماء قريش، فلما رأى النيران قال: “ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا”، ثم جاء معلنًا دخوله في الإسلام، وعندها قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا»، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، وبعدها توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة فدخلها دون قتال في العشرين من رمضان للسنة الثامنة من الهجرة. واكتسب مسجد الفتح بالجموم اسمه لارتباط المكان بقصة فتح مكة، ودوره التاريخي في نزول الرسول صلى الله عليه وسلم به مع جيش الفتح ومبيته به، ما زاد من أهميته في التاريخ الإسلامي وجعله أحد الأماكن التي يحرص كثير من المسلمين على زيارتها، لتذكر أحداث مسيرة جيش فتح مكة الذي يعد مرحلة مهمة ومفصلية في التاريخ الإسلامي. مشروع الأمير محمد بن سلمان تعرض مسجد الفتح للخراب والدمار مع تعاقب الزمن حيث عانى من الإهمال على فترات متقطعة خلال القرون السابقة، وكان في بعضها يعاد بناؤه بأحجار مرصوصة غير مكتملة وبأسوار قصيرة من غير سقف، ومع ذلك ظل المسجد محتفظًا بمكانته وقيمته التاريخية، وعثر حوله على بقايا أثرية من أزيار فخارية وأوانٍ خزفية متناثرة وقطع نقدية وعملات بيزنطية وهندية، وكان المسجد عبارة عن بناء حجري وحوله منازل حجرية وآثار لعيون مياه ونخيل. هجر مسجد الفتح لفترة من الزمن، ثم جدد بناؤه مرات عدة كان آخرها عام 1398هـ، حين تمت إعادة بناء المسجد بواسطة الشيخ القطان، إذ لم يتبق من المسجد وقتها سوى المحراب الحجري، ثم بعد ذلك عام 1419هـ تم ترميم المسجد وتوسعته وإضافة مصلى سيدات ودورات مياه ومبنى مجاور يستخدم مغسلة للموتى. وفي عام 2022م، اختير مسجد الفتح بالجموم ضمن المساجد التي شملتها المرحلة الثانية من مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، الذي يهدف إلى إعادة تأهيل وترميم 130 مسجدًا تاريخيًا في مختلف مناطق المملكة. وشملت المرحلة الثانية من مشروع تطوير المساجد التاريخية 30 مسجدًا تاريخيًا موزعة على مناطق المملكة الـ 13، بواقع 6 مساجد لمنطقة الرياض، و5 مساجد في منطقة مكة المكرمة، و4 مساجد في منطقة المدينة المنورة، و3 مساجد في منطقة عسير، ومسجدان في المنطقة الشرقية، ومثلهما في كل من الجوف وجازان، ومسجدًا واحدًا في كل من الحدود الشمالية، تبوك، الباحة، نجران، حائل، والقصيم. وجاء الإعلان عن المرحلة الثانية بعد الانتهاء من المرحلة الأولى التي تم إطلاقها مع بداية المشروع في العام 2018م، حيث شملت إعادة تأهيل وترميم 30 مسجدًا تاريخيًا في 10 مناطق بتكلفة قاربت 50 مليون ريال، وبسعة استيعابية للمصلين ناهزت 4400 مصل، فيما بلغ عمر أكبر مسجد تاريخي ضمن المرحلة الأولى 1432 عامًا. وينطلق مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية من أربعة أهداف استراتيجية، تتلخص بتأهيل المساجد التاريخية للعبادة والصلاة، واستعادة الأصالة العمرانية للمساجد التاريخية، وإبراز البعد الحضاري للمملكة العربية السعودية، وتعزيز المكانة الدينية والثقافية للمساجد التاريخية، ويساهم في إبراز البُعد الثقافي والحضاري للمملكة الذي تركز عليه رؤية 2030 عبر المحافظة على الخصائص العمرانية الأصيلة والاستفادة منها في تطوير تصميم المساجد الحديثة. تحفة معمارية جدد مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، مسجد الفتح ليزيد مساحته من 455.77 م2، إلى 553.50 م2، ويرفع طاقته الاستيعابية للمصلين من 218 إلى 333 مصليًا. واستخدم في إعادة بنائه مواد بناء طبيعية على الطراز المعماري للمنطقة الغربية، ومن تلك المواد الطوب والحجر البازلتي والجبس والخشب، فيما تبرز الرواشين والمشربيات كأحد عناصر بناء المسجد، التي تعبر عن النافذة أو الشرفة البارزة المصنوعة من أجود ألواح الخشب وتستخدم في تغطية النوافذ والفتحات الخارجية. ويبرز العنصر الخشبي في معمار الحجاز بهدف المحافظة على درجات حرارة معتدلة داخل المسجد، وقد استخدمت (الشخشيخة) في مسجد الفتح كعنصر معماري يُغطي الفراغات الرئيسية في المسجد وللمساعدة على دخول ضوء الشمس، كما اُستخدمت أضلاع الشكل المقترح لها في دخول التهوية، فيما تحولت الشخشيخة بالإضافة لوظائفها إلى عنصر زُخرفي جمالي للمباني الفاخرة كالمساجد والقصور. ويتميز البناء على الطراز المعماري للمنطقة الغربية بتحمل الظروف الطبيعية المحيطة على الساحل، فيما تشكّل المساجد التاريخية فيه تحفًا معمارية تعكس ثقافة بناء متقنة، وتمثّل الأخشاب عنصرًا بارزًا منذ أوائل القرن الرابع عشر الهجري، حيث تتسم المساجد ببساطة تصميم الواجهات، وبروز العنصر الخشبي، والمحافظة على درجات حرارة معتدلة داخل المسجد. ويعمل مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية على تحقيق التوازن بين معايير البناء القديمة والحديثة بطريقة تمنح مكونات المساجد درجة مناسبة من الاستدامة، وتدمج تأثيرات التطوير بمجموعة من الخصائص التراثية والتاريخية، في حين يجري عملية تطويرها من قبل شركات سعودية متخصصة في المباني التراثية وذوات خبرة في مجالها.